الأمم المتحدة تبلغ الثمانين وتكبر القضية الفلسطينية بثلاثة أعوام. حدث استثنائي ستشهده المنظمة الدولية اليوم، 22 (سبتمبر) 2025، عشية افتتاح الدورة ال80 للجمعية العامة غدًا: عشر دولٍ غربية أو أكثر، بينها بريطانياوفرنسا وكندا، ستعترف ب«دولة فلسطين». قرار تأخر عقودًا عدّة وكلّف المنطقة حروبًا كثيرة. تبدّلت الظروف وأُبرمت معاهدات سلام لكن الحروب تجدّدت واستمرّت، وبلغت معها إسرائيل (والولاياتالمتحدة) في غزّة حدّ الإبادة الجماعية والدمار الشامل، لأنهما تهرّبتا دائمًا من لحظة اعتراف أكثر من ثلاثة أرباع الدول الأعضاء في الأممالمتحدة بالدولة الفلسطينية. أعادت حربا غزّة ولبنان، وتجريد سوريا من قدراتها الدفاعية، ثم الحرب على إيران، تأكيد ما هو معروفٌ عن التفوّق العسكري الإسرائيلي، لكن الدوافع الأمنية ظلّت على الدوام الذريعة الجاهزة الكاذبة لتغطية الانحياز الغربي، فالدولة الأكثر تفوّقًا هي الأكثر خوفًا على أمنها و«وجودها»... لأن هناك شعبًا فلسطينيًا موجودًا على أرضه التي سَلَبت منها ما سلبت، والآن تريد طرده منها. أمكن الوصول إلى هذا الحدث التاريخي اليوم بفضل ديبلوماسية هادئة خاضتها المملكة العربية السعودية باعتدالها وعلاقاتها الدولية المتينة، فتلقت تعاونًا فاعلًا وحاسمًا من فرنسا. أسباب كثيرة جعلت الدور السعودي متقدمًا، فالمملكة حدّدت السلام هدفًا ولم تكن معنيّة بألاعيب نتنياهو على ترمب، بل أبدت إيجابية كاملة في الاتصالات التي أجريت معها، سواء في رئاسة ترمب السابقة أو الحالية، للدخول في فلك تطبيع العلاقات مع إسرائيل، لكن مكانتها الإسلامية والعربية لا تخوّلها أقلّ من اشتراط أن يحصل الشعب الفلسطيني على حقّه في دولة مستقلّة عاصمتها القدسالشرقية، لتكون نقطة النهاية في الصراع العربي- الإسرائيلي. أما فرنسا، التي لعبت دورًا في إقناع دول أوروبية وغربية أخرى، فاستند قرارها إلى استمرارية سياسة ديغولية كانت واعية في مقاربة ذلك الصراع من طرفَيه ثم سبّاقة في دعم أي جهود أو مبادرات لتصحيح «الخطأ التاريخي» في فلسطين، ولو مع حرصها على مراعاةٍ كاملة لمصالح إسرائيل. أيدت باريس أهداف إسرائيل في حرب غزّة، غير أن وطأة الفظائع أقنعتها لاحقًا بوجوب التحرك لإنهائها، فكان أن التقت والسعودية على مبادرة «تنفيذ حلّ الدولتين». ظلّ الظلم الذي أُلحق عنوةً بالفلسطينيين قبل مئة عام ونيّف، في «وعد بلفور»، يطارد الحكومات البريطانية، ثم انتقل إلى الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ ثمانين عامًا ليمسك بزمامه أخيرًا دونالد ترمب وبنيامين نتنياهو المجرّدان من أي ضمير إنساني أو حسٍّ بمسؤولية تاريخية: الأول كرّر قبل أيام «الفيتو» ضد قرار أممي يطلب وقف إطلاق النار في غزّة وتسهيل دخول المساعدات، والآخر طلب من جيشه تدمير مدينة غزّة «من جذورها» وأعلن أنه «لن تكون هناك دولة فلسطينية» داعمًا عزم وزيره بتسلئيل سموتريتش على «دفن» تلك الدولة قبل ولادتها، وعلى «خنق السلطة الفلسطينية اقتصاديًا». تعزو الدول المعترفة أخيرًا ب«دولة فلسطين» قرارها إلى استمرار الحرب على غزّة، تريد إنهاءها وتطالب بالحدّ من بناء المستوطنات وإعادة الالتزام بعملية سلام مع الفلسطينيين. هذا ما سمعه ترمب من كير ستارمر لكنه تصرّف كمن لم يسمع، بل طالبه بتغيير قرار بريطانيا إلا أنها كسواها تريد النأي بنفسها عن الجرائم الإسرائيلية. كرّر الإسرائيليون اتهام هذه بأن اعترافها بالدولة «مكافأة لحماس»، أو أنه يدفع إسرائيل إلى «الانتحار» (جدعون ساعر)، لكن الرئيس الفرنسي ردّ بأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية «أفضل طريقة لعزل حماس». باتت الدول الغربية، بتأثير من الرأي العام لديها، متيقنة أن دعمها لإسرائيل أسهم في جنوحها إلى الوحشية القصوى، وأن إدارة ترمب تغطّي تفاقم هذه الوحشية، لذا يبدو الاعتراف ب«دولة فلسطين» رفضًا لنهج ترمب الخاضع كليًا لإرادة نتنياهو- سموتريتش. أيًّا تكن «رمزية» خطوة الاعتراف بالدولة فإن واشنطن لا تستطيع إنكار مغزاها، لأن المكابرة ليست سياسة في حدّ ذاتها، كما أن الذهاب إلى نزوات جيوسياسية ك«غزة ريفييرا الشرق الأوسط» ليس خريطة طريق إلى السلام. يمكن «فيتو» الولاياتالمتحدة في مجلس الأمن والإرهاب الإسرائيلي على الأرض أن يعطّلا المسارين الأممي والواقعي ل«دولة فلسطين»، لكن حدث الاعتراف بهذه الدولة في الشهر ال23 للحرب على غزة يضع إسرائيل أمام واقعَين يصعب تجاهلهما: الأول أنها لن تحقق أمنًا مستدامًا على حساب الدول العربية. والثاني أن الشرط الأساسي لقبولها كدولة طبيعية في الإقليم هو قبولها ب«دولة فلسطين». أما تهديدها بإجراءات انتقامية فإنها «ماضيةٌ فيها» بحسب تعبير أنطونيو جوتيريش (تدمير غزة بالكامل، وضمّ تدريجي للضفة الغربية)، لكن الدول الغربية لن تعترف بالوقائع التي تفتعلها إسرائيل بهدف «إبادة فلسطين»، وتدرك هذه الدول جيدًا صعوبات ما تفعله، فاعترافها ب«دولة فلسطين» ودعم إقامتها فعليًا وتمكينها اقتصاديًا باتت الوسيلة الوحيدة لإفشال مشروع «إسرائيل الكبرى». ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»