إن في قصص الناس عبراً، وفي محن البشر حكماً، وفي ابتلاءات الأقدار دروساً تهذب النفوس وتقوّم الأخلاق. وإني لأحدثك اليوم عن قصة رجل من التجار، جمع المال من أطرافه، وبنى القصور في أرجاء مدينته، فظن الناس أنه أسعد الخلق، وهو في الحقيقة أتعس من اليتيم الذي لا يجد كسرة خبز. كان هذا التاجر قد بلغ من الثراء مبلغاً عظيماً، فله من الذهب أطنان، ومن القصور عشرات، ومن الحدائق الغناء ما يسر النواظر. يأتيه المال من كل فج، ويقصده التجار من كل حدب وصوب، يتزاحمون على بابه كما تتزاحم النحل على الأزهار. ولكن- يا للمفارقة العجيبة! كان هذا الرجل الذي يملك خزائن الأرض، محروماً من تمرة يضعها في فيه! نعم أيها القارئ، تمرة واحدة صغيرة، لا تساوي في السوق إلا فلساً واحداً، كانت أغلى عليه من كنوز قارون. أصابه داء السكر، فجعله أسيراً لنظام قاس لا يرحم، عبداً لحمية صارمة لا تلين. وكان ولده البار أشد الناس حرصاً على صحة أبيه، فكان يقف له بالمرصاد كلما مدّ يده إلى إناء التمر. "يا أبتاه الحبيب"، كان يقول له بصوت مختنق بالدموع، "إن هذه التمرة الصغيرة قد تكون سبباً في هلاكك. أتريد أن تقتل نفسك من أجل لذة عابرة؟ أتريد أن تترك أولادك أيتاماً من أجل حلاوة لحظة؟" فكان الأب ينظر إلى التمرة نظرة الظمآن إلى الماء، والجائع إلى الطعام، ولكنه يكف يده خوفاً من عقوق ولده، وإشفاقاً على قلبه المحترق. وفي ليلة من الليالي الساجية، بينما كان التاجر جالساً في شرفة قصره الفخم، يتطلع إلى النجوم في كبد السماء، ويفكر في عجائب القدر ومفارقات الحياة، سمع أصواتاً مرحة تتعالى من الحي الفقير المجاور لقصره. فأطل من نافذته، فإذا بعائلة من الفقراء جالسة أمام كوخها المتواضع، الأب عامل بسيط يكدح في النهار ليجمع قوت يومه، والأم امرأة صالحة تدبر شؤون بيتها بحكمة الراضيات بقضاء الله. وحولهما أطفال كالأقمار، يضحكون ويلعبون في براءة الطفولة وطهارة الفطرة. وكانت الأم تقدم لأطفالها تمرات قليلات، ربما لا تزيد على عدد أصابع اليد، فكان الأطفال يتناولونها في سرور وامتنان، كأنها أشهى طعام في الدنيا. ولم يكن أحد منهم يشكو أو يتذمر، بل كانوا يحمدون الله على نعمته، ويشكرونه على فضله. فانخلع قلب التاجر، وتصدع فؤاده، وقال في نفسه: يا لله العجب! ها هنا أنا، أملك من المال ما لو وُزع على أهل مدينة بأكملها لأغناهم، ولكنني أعجز عن أن أضع في فمي تمرة واحدة. وها هناك هذه العائلة الفقيرة، لا تملك من حطام الدنيا شيئاً يُذكر، ولكنها تنعم بما حُرمت منه: القدرة على أن تأكل التمر متى شاءت، وأن تستمتع بطعامها من دون خوف أو قلق. ثم تذكر كم من الناس والحسرة تملأ قلبه يتذمرون من أحوالهم، ويشكون من فقرهم، ويتأففون من طعامهم البسيط، وهم لا يدرون أن نعمة الصحة التي يتمتعون بها أغلى من كل كنوز الأرض. كم منهم يقول: "ليتني أملك قصراً مثل فلان!" وهو لا يدري أن صاحب القصر يتمنى لو استطاع أن يأكل ما يأكله هذا الشاكي المتذمر. وهنا أدرك التاجر حقيقة عظيمة، وهي أن الله، جل جلاله، قسم النعم بين عباده بحكمة بالغة، فما من إنسان إلا وله من النعم ما يستوجب الشكر، وما من مخلوق إلا وعليه من النقص ما يستدعي الصبر. وعلم أن السعادة الحقيقية ليست في كثرة المال، ولا في فخامة القصور، ولا في وفرة المتاع، وإنما هي في القناعة بما قسم الله، والرضا بما قدر الله، والشكر على ما أنعم الله. ومنذ تلك الليلة المباركة، تغيرت نظرة التاجر إلى الحياة تغيراً جذرياً. فلم يعد ينظر إلى التمرة التي حُرم منها، بل أصبح يتأمل النعم الكثيرة التي لا تزال باقية له: نعمة المال الذي يستطيع به أن يساعد الفقراء، ونعمة الولد البار الذي يحرص على صحته، ونعمة العقل الذي يفكر به، ونعمة العينين اللتين يرى بهما. وأصبح إذا جاءه إنسان يشكو من ضيق حاله، أو يتذمر من قلة ماله، يقول له بحكمة الحكماء، وتجربة المُبتلين: "أتشكو يا أخي وأنت تستطيع أن تأكل التمر متى شئت؟ والله إن نعمة واحدة مما تملك ولا تقدر قيمتها، لهي أغلى عندي من كل هذا المال الذي تراه. وهكذا علمتنا هذه القصة أن الشكر على الموجود خير من الأسف على المفقود، وأن تقدير النعمة الصغيرة أجدى من التحسر على النعمة الكبيرة التي لم نحصل عليها. فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، واجعلنا من الراضين بقضائك، الشاكرين لنعمائك، الصابرين على بلائك، إنك سميع مجيب.