قال جبران خليل جبران «إن الذكريات هي بيتٌ نسكنه حين يخذلنا الحاضر». في الزمن البعيد، حين كان الناس يخبّئون أوراقهم في صناديق خشبية، وصورهم في ألبومات ثقيلة تُغلق بأقفال صغيرة، لم يكونوا يعرفون أن هناك صندوقًا آخر يرافقهم أينما ذهبوا، لا يُرى ولا يُمسك، لكنه الأصدق والأبقى... صندوقٌ اسمه الذاكرة العاطفية. ذاك الأرشيف الخفي لا يحفظ الأحداث كما هي، بل كما شعرنا بها. لا يتذكّر شكل البيت القديم بقدر ما يستعيد رائحة الخبز في مطبخه، ولا يتذكّر تفاصيل أول يوم في المدرسة بقدر ما يستحضر رعشة اليد الصغيرة وهي تتمسّك بيد الأم. إن الذاكرة العاطفية تقيس الزمن بدمعةٍ سقطت، أو نبضةٍ ارتبكت، أو ابتسامةٍ غيّرت يومًا كاملًا. العاطفة قبل الحدث الذاكرة العاطفية لا تعيد إلينا الوقائع بترتيبها الدقيق، بل تعيد إلينا ارتباكنا عند حدوثها. قد ننسى أسماء الأشخاص أو ملامحهم، لكننا لا ننسى شعور الخوف أو الدفء أو الطمأنينة الذي ارتبط بهم. إنها ذاكرة تختصر الإنسان في لحظاته الحقيقية، اللحظات التي كان فيها قلبه حاضرًا أكثر من عقله. «لا نقيس الأيام بعدد ما عشناه، بل بعدد ما أثر فينا منها.» - أنطوان دو سانت إكزوبيري الروائح... بريد الروح السري كم من رائحةٍ صغيرة حرّكت فينا مدينة كاملة؟ رائحة المطر الأولى تعيد إلينا طفولة بعيدة، ورائحة العود في بيت الجد تستحضر جلسات دافئة، وعطرٌ عابر في شارع مزدحم قد يوقظ اسمًا لم نجرؤ على نطقه منذ زمن. إن الروائح هي رسائل سرّية من أرشيف الروح، توقّعها الحياة بأبسط الطرق وأكثرها عمقًا. الموسيقى... أصوات الماضي الحيّة قد تُسمع نغمة بسيطة أو جملة موسيقية قصيرة، فتنهض فيك ذكريات لم تتوقعها. أغنية بثتها إذاعة قديمة كفيلة أن تُعيدك إلى زمن الأصدقاء، أو أول مقهى، أو رحلة قطار طويلة. فالموسيقى ليست مجرد فن، بل وعاء تختبئ فيه مشاعرنا بصدق. «الموسيقى قادرة أن تعيد إلينا ما نجهل أننا فقدناه». - بول أوستر الصور المخفية في القلب لا نملك صورًا لكل شيء، لكن قلوبنا خبأت لنا ما هو أعمق: صورة يدٍ احتضنتنا، أو نظرة وداع صامتة، أو حضنٍ أعاد إلينا الأمان. الصور العاطفية لا تُطبع على ورق، بل تُطبع على الروح، وتبقى أوضح من كل أرشيف فوتوغرافي. حين تكتب الروح يومياتها هناك دفتر سرّي تكتبه أرواحنا بلا ورق. فيه رسائل لم تُرسَل، وكلمات توقّفت عند الحنجرة، ولقاءات لم تتم. الذاكرة العاطفية تحتفظ بنصف الجملة، بضحكة لم تكتمل، بسلامٍ لم يحدث. وهذا ما يجعلها دفتر الحياة الأكثر صدقًا. «نكتب في دفاترنا ما نريد، لكن الذاكرة لا تكتب إلا ما أرادت هي أن يبقى». - ميلان كونديرا بقاء ما لا يُنسى قد نخطئ في التواريخ ونغيّر الأماكن، لكننا لا نخطئ في الإحساس. ننسى متى حدث اللقاء، لكننا لا ننسى خفقته. ننسى أين كان الوداع، لكننا لا ننسى وجعه. الذاكرة العاطفية لا تهتم بالتفاصيل الخارجية، بل تلتقط الجوهر: ذلك الشعور الذي غيّر مسارنا ولو للحظة. أرشيف الروح الذاكرة العاطفية هي أرشيف خاص لا يخضع للنظام ولا للأرشفة الزمنية. إنه أرشيف وجداني، حيث يتقدّم الحنين على الواقع، وتجلس الغيابات في الصف الأول. ولعلنا نكتشف في لحظة عابرة أن ما صنعنا ليس ما أنجزناه، بل ما شعرنا به في طرقات حياتنا. في الزمن البعيد، كانت الذكريات تُحفظ في صناديق خشبية، أما اليوم فهي تُحفظ في أرواحنا. الذاكرة العاطفية ليست ترفًا وجدانيًا، بل هي الدليل الوحيد على أننا عشنا بصدق، وأن ما مرّ بنا لم يكن مجرد وقائع عابرة، بل لحظات صنعتنا كما نحن. إنها ليست ما نتذكره فقط.. بل ما يرفض أن يُنسى!