تخيل نفسك تحتسي شايا مع كعكة إسفنجية صغيرة لتنغمس فجأة في طفولتك. هذا ما حدث بالضبط في حلقة مادلين الشهيرة في رواية (البحث عن الزمن المفقود) لمارسيل بروست، هزة حسية تسحب الراوي إلى الوراء عبر سنوات بعيدة كما لو كانت أمس. أخذ مشهد مادلين باعتباره تعبيرا عن النوستالجيا، أو مرض الحنين، لكنه في الحقيقة صورة دقيقة لما يعرف بالذاكرة اللاإرادية، حيث يفتح الطعم أو الرائحة العادية لحظات منسية منذ فترة طويلة، أطلق عليها بروست نفسه الاسترجاع اللاإرادي. في لحظة واحدة، تنفجر نهارات الطفولة، ليعيش ماضيه مرة أخرى في انتباه غير عادي، عندها يتبين كيف للماضي الذي تتفرع جذوره فينا يقفر فجأة ليقتحم لحظتنا المعاصرة. يؤكد العلم الحديث أن رؤية بروست حقيقية وليست وهما أدبيا. يظهر علم الأعصاب أن جزيئات الرائحة تطلق شرارتها مباشرة إلى مراكز الذاكرة العاطفية لدينا عبر منطقة الشم عابرة بسرعة إلى الجهاز الحوفي في المناطق المخصصة للعاطفة والذاكرة. لا عجب أن نفحة شيء مألوف يمكن أن تشعرك فجأة بحياة تغمرك بالعاطفة. يرى علماء النفس أن الذكريات التي تتكون بسبب الروائح تكون أثرى عاطفيا من التي تسببها الحواس الأخرى. في تجربة تلو الأخرى، سوف تجرف الرائحة في وقت مبكر ذكريات أكثف من الصورة أو الكلمة. يبدو الأمر كما لو أن أدمغتنا تؤرشف الذاكرة لتجهز عند الطلب محفزة بالروائح من حولنا. لقد تنبّه الكُتّاب والفلاسفة منذ زمن بعيد إلى ما تختزنه لحظة المادلين من عمق. فرواية بروست، في جوهرها، ليست مجرد سرد لحياة شخصية، بل تأمل طويل في الزمن كما يُستعاد لا كما يُقاس. كان بروست يرى أن الذكريات التي تفاجئنا دون قصد، كذكرى الطفولة التي فجّرها طعم المادلين، دليل على أن الماضي لا يختفي، بل يظل حيًّا في أعماقنا، ينتظر لحظة عابرة كي يظهر من جديد. المفكر الفرنسي بول ريكور رأى في الذاكرة نسيجًا حيًّا يشكّل هوية الإنسان، فالذات كما يرى لا تُبنى على ما نتذكره عن قصد فقط، بل على تلك اللحظات التي تنبع من أعماق اللاوعي، كأنها تكشف لنا عن ذواتنا العميقة. في نهاية المطاف، يضعنا مشهد المادلين أمام فهم مختلف: ليست الذاكرة أرشيفا نستدعيه متى شئنا، بل قوة حية، تتسلل إلى وعينا دون إذن، وتعيد تشكيل حاضرنا بلحظة واحدة. إنها، كما رآها بروست، دليل على أن الزمن عميق لا يسير إلى الأمام فقط، بل يجري فينا، يحمل ماضينا إلى حاضرنا، ويذكّرنا أننا نعيش أكثر مما نظن. في النهاية، يذكرنا مشهد مادلين لبروست أن الوقت شخصي به تتفرد ذواتنا. يمكن لأبواب الماضي الموصدة حولنا أن تفتح فجأة لتدعونا للدخول. في تلك اللحظات، يخرج الطفل بداخلنا من الماضي، ويعيد حياكة أيامنا التي نعيش لحظتها الضائعة.