حينما كنا أطفالًا، جالت في أذهاننا أفكارٌ عن مكانٍ سريٍّ سنجد فيه درعًا لا يُخترق؛ وسيفًا بتارًا سنقتل به الكائنات الشريرة التي ستهاجمنا، ثم سيعرفوننا الناس بأننا أبطال ننقذ العالم من الأشرار الدخلاء عليه. وأظن هذه الأفكار إن خطرت على ذهن الدكتور هزاع الزهراني -رئيس قسم أمراض الدم والأورام بمستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بالرياض- حينما كان طفلًا، فلم تكن مجرد أحلام، بقدر ما أصبحت حقيقة هذا اليوم باختلاف أدواتها ومعطياتها؛ فالمكان السري مركز الأبحاث، والدرع هو العلم الذي أُتيح لهذا الطبيب السعودي، أما السيف البتّار فهي نتائج العلاج الذي يشرف عليه وفريقه، في حين أن الأشرار هي الأمراض المرتبطة بالدم والأورام. فقد نشر المستشفى قصة أول زراعة كبد في العالم لحالة نادرة من اضطراب تخثّر الدم؛ وبالنسبة لي لم يكن حدثًا مدهشًا مقارنةً بتجارب عايشتها في أروقة هذا الصرح، لحالاتٍ مشابهة مع كيفية تعاطي الدكتور هزاع وفريقه معها بمنهجٍ يرفض الاكتفاء بالرعاية التلطيفية حين يكون الشفاء الجذري ممكنًا. إذ أتذكر مريضًا قضى أربع سنوات بين الطوارئ والعناية المركزة والتنويم، وبلغت تكاليف علاجه بالعناية المركزة خلال أسبوعين فقط، قرابة مليوني ريال، ثم جاءت تجربة سريرية أشرف عليها الزهراني؛ نجحت فاعتمد العلاج رسميًا، وكان هذا المريض أول من تلقّاه، فعاد اليوم موظفًا منتجًا، متزوجًا، وأبًا لطفلة. هذه القصص تجسيدٌ لفلسفة التحوّل الصحي في المملكة؛ فالعلاج استثمارٌ اجتماعي يعود ريعه على الإنسان والاقتصاد معًا؛ وما يفعله الزهراني هو الترجمة العملية لمفهوم العائد الاجتماعي على الاستثمار (SROI)؛ ملايينٌ كانت تُنفق سنويًا على علاجات غير شافية، يُعاد توجيهها إلى حلولٍ مستدامة تعيد الحيوية لحياة المرضى. ويتوافق هذا النهج مع جوهر إستراتيجية «التخصصي»؛ رعايةٌ تخصصيةٌ عالية مدعومة بالبحث والابتكار، مع انضباطٍ تشغيلي يهدف إلى تقليل مدة التنويم ورفع الكفاءة، وتعزّز هذا التوجّه بأمرٍ ملكي قضى بتحويل «التخصصي» إلى مؤسسةٍ مستقلةٍ غير هادفة للربح؛ تمكينًا لرحلة التحوّل وتعزيزًا للتنافسية العالمية. واليوم، تُتوَّج المسيرة بمؤشرات أداءٍ نوعية؛ إذ صُنّف المستشفى الأول في الشرق الأوسط وإفريقيا ضمن قائمة أفضل 250 مؤسسة رعاية صحية أكاديمية حول العالم، كما أُدرج ضمن قائمة أفضل المستشفيات الذكية في العالم لعام 2025. هذا كله يقع في صميم أهداف برنامج تحوّل القطاع الصحي ضمن رؤية 2030: كفاءةُ إنفاق، جودةٌ أعلى، وأثرٌ محليٌّ يتسع عالميًا. فيتحوّل المستشفى المرجعي إلى منصة معرفةٍ ومختبر ابتكارٍ ومنارة تدريب، وقيادةٌ إقليمية في طبٍّ معقّدٍ كان حكرًا على قلّة. فبرأيي، أن الدكتور هزاع الزهراني مثالٌ للطبيب السعودي الذي يرى في الابتكار طريقًا لجعل كل مريض مشروعَ شفاء له ولغيره، وفي كل معاناة فرصةً لأول خيوط الأمل. ففي زمن التحوّل الوطني، نحتاج إلى تعميم هذه المدرسة؛ لتمويلٍ تنافسي للبحث السريري، لا يكتفي بإبقاء المريض على قيد الحياة، بل نافعا فيها. ومن هنا أقول لأطفالنا: أطلقوا عنان أفكاركم، فنحن في ظل حكومة جعلت من الصحراء إلهاما للعالم؛ أرضا للحالمين، فيا طفلي الصغير، هيّئ نفسك لتكون «البطل الذي ينقذ العالم».