في عددها رقم 1803 الصادر في 23 - 27 مايو 2025، نَشرتْ دوريّة «كورييه إنترناسيونال» الفرنسيّة مُقتطفا من تحقيقٍ أجراه كل من دانييل غيرني Daniel Gerny وبِت ستوفر Beat Stauffer لصحيفة Neue Zürcher Zeitung، اليوميّة السياسيّة النّاطقة باللّغة الألمانيّة، ومقرّها زيورخ، والمنشور بتاريخ 14 أبريل الماضي. وننقل الجزء الأكبر من هذا التحقيق الذي يتناول الهجرة غير النظاميّة من بلدان المغرب إلى أوروبا. في المغرب، غالباً ما يَستخدم المُهرِّبون الأشخاصَ المؤثّرين على شبكات التواصُل الاجتماعي لجذْبِ مُهاجرين إلى أوروبا. عَبْرَ «تيك توك» و«فيسبوك» أو «إنستغرام»، يَبيع هؤلاء المؤثّرون لأبناءَ مُجتمعاتهم الوهْمَ بحياةٍ أفضل، من دون التطرُّق إلى المخاطر المُترتّبة عن العبور غير النظاميّ عَبْرَ البحر الأبيض المتوسّط. تُظهِر الصورة التي نَشرها «أمير المدينة» (لقبٌ يتّخذه أحد المؤثّرين على شبكات التواصُل الاجتماعي) على صفحته على «فيسبوك»، في يناير الماضي، شابّاً ذا طلّة مُبهرة من قلب مدينة باريس. الوقت هو المساء، و«الأمير» المذكور بنظارته الشمسيّة فوق أنفه وقبّعة مسحوبة لأسفل فوق الرأس، يَقف أمام سيّارة «تِسلا» سوداء، بابها مفتوحٌ لأعلى، يُظهرها على شكل فراشة، وذات مقعدٍ من الجلد الأبيض، وإضاءة داخليّة بنفسجيّة. وفي الخلفيّة، يبدو برج إيفل سابحاً في ضوء أصفر. وفي أعلى الصورة، كتب «أمير المدينة» بالعربيّة: «لا تحزني يا أمّي، مستقبلي هو في الجهة الأخرى من البحر»، فعلِّق أحدهم: «إن شاء اللّه، إذا شاء اللّه ذلك»، و«الأمير» يردّ: «سيَشاء». الأرض الموعودة في كل عام يَعبر عشرات الآلاف من الشباب من المغرب والجزائروتونس وليبيا ومصر باتّجاه أوروبا. وفي سويسرا، بالعام 2024، كان أكثر من طالب لجوء من أصل سبعة قادما من واحدٍ من هذه البلدان. من الناحية العدديّة، تبقى أفغانستان متقدّمة كثيراً عن بلدان المنشأ الأخرى، لكن لا بدّ من التذكير بالفارق الكبير هنا: إذا كان يتمّ منْح المُهاجرين من أصولٍ أفغانيّة حقّ اللّجوء بسويسرا في 80% من الحالات، فإنّ هذا الرقم هو أقلّ من 2% بالنسبة إلى أولئك القادمين من بلدان المغرب. شباب المغرب والجزائروتونس لا يهربون من الحرب ولا من الاضْطهادات، بل هُم، في غالبيّتهم العظمى، وببساطة، يبحثون عن حياةٍ أفضل. في بلدانهم ليس لديهم الكثير ليخسروه: كثرٌ يعيشون في حالةٍ من عدم الاستقرار، ومن دون أملٍ برؤية أفقهم مفتوحا ذات يوم. أوروبا، القارّة التي يربطها تاريخٌ طويل بالمغرب، ثقافيّا واقتصاديّا، هي في البداية، بالنسبة إلى المُرشّحين للهجرة، الأرض الموعودة. المؤثّرون الذين لديهم علاقات بعالَم التهريب، مثل «أمير المدينة» وبعضِ الأربعين ألفا من المُشتركين، يستغلّون هذا الشعور، فهُم يغذّونه ويُسهمون، بفضل الهالة التي يتمتّعون بها على «فيسبوك» و«تيك توك» وشبكات أخرى، في دعْمِ طلب الهجرة نحو أوروبا. هؤلاء الشباب الذين تَسكنهم رغباتٌ مُمِضّةٌ في العيش في مكانٍ آخر هُم ال«harraga» (الحرّاقة)، وتعني الكلمة بالعربيّة فعل «الحَرْق»، وتحيل على عادة المهاجرين في إحراق أوراقهم الثبوتيّة وكلّ المُستندات الشخصيّة للحؤول دون كشْف السلطات الأوروبيّة عن هويّتهم. وتعني «الحرقة» الهجرة غير النظاميّة، وهي بطريقةٍ ما تعبِّر عن الذين يحترقون رغبةً في مواجهة العقبات من أجل تجربة حظّهم في أوروبا. على «تيك توك» أيضا، نشاهد شبابا مُبتهجين وهُم يتلفون أو يرمون أوراقهم الثبوتيّة. مقاطع فيديو تُكسبهم عشرات الآلاف من المُشاهدات والإعجابات. «مكانكَ هو بيننا» «أمير المدينة»، المُقدَّر أنّه في الأربعين من عمره، ويعيش في باريس، إذا ما آمنّا بصحّةِ بروفايلِهِ (ملفّه الشخصيّ)، ناشطٌ على «فيسبوك» منذ أغسطس 2021. واحدٌ من منشوراته الأوَل يُعلن مُعبِّرا بوضوح عن توجُّهِه. وفي إحدى الصور، نشاهد أربعة رجال شباب على متنِ قاربٍ مطّاطيّ. والتعليق على الصورة بالعربيّة يَرِد كالآتي: «هل أنتَ قادمٌ من أفريقيا؟ تَشعر بأنّك مُضطهَد؟ هل أنتَ فقير؟ هل تكره الدولة والحكومة؟ تُفكِّر بتغيير جنسيّتكَ؟ أنتَ مريض وتريد أن تتعالَج؟ إذاً، أنتَ مثلنا، ومكانُكَ هو بيننا». البروفايلات الشبيهة نَجِدها بالمئات، بل بالآلاف، على شبكات التواصل الاجتماعي كافّة، ولا سيّما «تيك توك»، لكنّنا نَجِدها أيضا على «فيسبوك» و«إنستغرام». ياسين، ذو الأصول التونسيّة، كان لديه أكثر من 10.000 مُتابِع على «تيك توك»، فضلا عن سمعة طيّبة. الاسم الذي اختاره لملفِّهِ الشخصيّ يَختصر جيّداً غَرَضَ حسابه: لقد استخدمَ عمداً مصطلحَ «تقطيعة»، وهو باللّهجة التونسيّة يعني «الهَرَب». كان «ذهاب» الذين يتمّ نصحهم من قِبَلِ ياسين للهجرة غير النظاميّة نحو إيطاليا «مضموناً»، وكانت هذه الضمانة هي شعاره. إنّه نشاطٌ مُربح: حين تسير الأمور جيّداً، كان ذلك يسمح لياسين، بحسب ما يدّعي، بتغطية الأساسيّ من نفقاته الجارية. ليس لكلّ المؤثّرين المبادئ نفسها: كثرٌ هُم الذين لا يخفون دوافعهم الماليّة، بل يؤكّدون حقيقة أنّهم على اتّصال برُعاة أو جهات اتّصال، وأنّهم يستطيعون، مقابل رسوم، تولّي مسؤوليّة الزبون، طالِب الهجرة، من الألف إلى الياء، منذ لحظة الانطلاق إلى لحظة الوصول إلى البلد الذي اختارَ الزبونُ الهجرة إليه. بعضٌ آخر من هؤلاء المؤثّرين، وانطلاقاً من باب التضامُن والاقتناع الشخصيّ، يقدّمون شهادات عن عملهم المجّاني وغير الربحيّ انطلاقا من تجربتهم الخاصّة، أو ينخرطون في منظّمة غير حكوميّة تُدافع عن حقوق اللّاجئين والمُهاجرين. الحدود غالباً ما تكون واهية أو غير واضحة المعالِم بين النشطاء السياسيّين والمؤثّرين في أسلوب الحياة والمدوِّنين الذين يشاركون قِصصهم عبر الإنترنت. من جانبٍ آخر، الرسالة هي نفسها دوماً: يُمكنك الوصول - ونحن سنساعدكَ. هذا ما يقوله ياسين أيضاً. من خلال رجلٍ موثوق به في تونس، استطاعت صحيفة Neue Zürcher Zeitung معرفة أمور أكثر عن الرجل الذي يختفي خلفَ بروفايل «تيك توك تقطيعة» وعن أنشطته. في السنوات الأخيرة أَنشأ دفتر عناوين واسعا، شملَ شخصيّاتٍ يقول إنّها ضروريّة لنشاطه: رجال شرطة، ووكلاء موانئ، وموظّفون محلّيّون. هذه الشبكة تَسمح له بالاستعلام عن العمليّات التي تُخطِّط لها الشرطة أو خفر السواحل، وهي معلومات يَستخدمها من أجل مساعدة المُشتركين لديه على ترْك البلاد بأمانٍ تامّ. تحاول صحيفة Neue Zürcher Zeitung التواصُل مع مُستخدِمين آخرين ل«تيك توك» بوسائل مُختلفة. وقد قُمنا باستحداثِ ملفٍّ شخصيّ أوردْنا من خلاله أنّ ثمّة شابّاً جزائريّاً من ضواحي فرنسا يَبحث عن وسيلةِ نقلٍ لصديقٍ من وهران يريد الذهاب إلى إسبانيا. تلقّينا رسالةً من رجلٍ يدعى أحمد. وبفرنسيّةٍ تُسيطر عليها لكنةٌ حضريّة إلى حدٍّ ما، قال إنّه قادر على تنظيم رحلة عبور بين الجزائر وجزيرة إيبيزا. «لديّ صديق يذهب مع 150» كتب أحمد في رسائله. ويقصد بذلك القارب المُجهَّز بمُحرِّك من 150 حصاناً، فاستفسرنا سائلين: «ما هو المبلغ الذي يطلبه صاحبكَ؟». «140000 د. ج.» أجاب أحمد، أي أقلّ من 1000 يورو بقليل. شبكة تهريب من الصعب أن نعرف ما إذا كان أحمد يَحصل على شيء من خلال دَوره كوسيط. ياسين، الرجل ذو بروفايل «تقطيعة» على «تيك توك»، يَزعم أنّه لم يسبق له أبدا أن طلبَ أيّ شيء من زبائنه لقاء النصائح أو خدمات الوساطة التي يقدّمها لهم، فهو رفض في البداية الإفصاح عن كيفيّة كسْبه المال، لكنّه في النهاية لمَّح إلى أنّ اتّصالا به تمَّ من طرفِ أحد أعضاء شبكة مهرّبين في إيطاليا، وأنّه يعمل مع المنظّمة المعنيَّة منذ العام 2021. أمّا مهمّته فهي تتمثّل في بناء علاقة ثقة مع الزبائن المُحتملين عبر «تيك توك»، والترويج للهجرة غير النظاميّة، وذلك من خلال نشْر صور وفيديوات مُغرية. ياسين ظلَّ مُراوِغا فيما يخصّ تفاصيل التنسيق مع هذه الجهة. وعندما كنّا نُصرّ على معرفة تفاصيل أكثر، كان يغدو عصبيّا وحَرِنا، وليس ثمّة ما يُثير الدهشة من هذا الموقف: الخوف من جهاز الدولة كبيرٌ في تونس. وهذا البلد سبقَ له أن وقَّعَ اتّفاقيّات مع الاتّحاد الأوروبي وإيطاليا تُجبره على وقْف تدفّقات الهجرة غير النظاميّة التي تمرّ عَبْرَ البحر الأبيض المتوسّط مقابل دعْم ماليّ معيَّن. وها قد مرّت ثلاث سنوات، منذ أن أصدر الرئيس التونسي قيس سعيّد أيضا مرسوما يقضي بفرْض غرامة ماليّة على نشْر المعلومات الكاذبة والشائعات على الإنترنت، وعقوبة السجن لمدّة تصل إلى 5 سنوات. في نهاية العام 2024، أَوقف ياسين أنشطته بصورة مؤقّتة، خوفاً من السجن. سوقٌ عُملاقة في سبتمبر، قبل ستّ سنوات، أطلقَ مؤثّرٌ ماهر، عن قصْد، شائعةً في شمال المغرب، مفادها أنّ قاربَ زودياك Zodiac (هو قارب مطّاطيّ ماركة زودياك الفرنسيّة) نقْلِ الشباب الذين يُخطّطون للمغادرة إلى إسبانيا مجّاناً. وعلى «فيسبوك» شهدنا أفلام فيديو تَزدهر، ويَظهر فيها رجالٌ من على مَتن قاربٍ وهُم مُبتهجون ومنتصرون يصرخون: «فيفا إسبانيا!». وفي 22 سبتمبر، مئات «الحرّاقة» انتظروا على شاطئ مرتيل، غير البعيد عن تطوان. كان ثمّة مركب هناك بالفعل، لكن سرعان ما تبيَّنَ أنّ الرحلة ليست مجّانيّة، وهذا ما لم يحُل دون تكرار المشهد نفسه في المساءات التالية.. مَشهد الشباب «الحرّاقة» مُجتمعين على الشاطئ المذكور نفسه. في 25 سبتمبر، تفاقَمَ الوضع وتدهورَ: حرّاس الشواطئ فتحوا النّار على الشباب المُجتمعين، ما أفضى إلى عددٍ من الجرجى، ووفاة طالبة. من الصعب قياس أو تحديد مسؤوليّة شبكات التواصُل الاجتماعي عن قنبلة الهجرة الموقوتة هذه. خالد مونة، الخبير في الموضوع، كان قد لفتَ إلى هذه الظاهرة المتفجّرة خلال مقابلة معه منذ سنتَيْن، إذ قالَ حينها: «ثمّة سوق كبيرة في صدد التكوُّن والظهور ستكون قادرة دوما على جذْب عددٍ أكبر من المؤثّرين». هذا ما لاحَظه يومها الأستاذ في كليّة العلوم الإنسانيّة في مكناس، المغرب. يَبيع المؤثّرون الأوهامَ حول طُرق الهجرة غير النظاميّة من دون تقدير النتائج المؤذية التي يُمكن أن تترتَّب عن ذلك. آلاف الأشخاص يتمّ إعلان مَوتهم أو اختفائهم سنويّا جرّاء محاولاتهم عبور المتوسّط. وعلى الرّغم من ذلك يبقى الطلب على الهجرة كبيرا. تحت تأثير عدم الأمان والقمع، يستمرّ الشعور بالضيق أو الكَرَب بالتنامي والانتشار، مُتيحا للمُهرّبين استقبال موجاتٍ منتظمة من المرشّحين للهجرة. آخر الأرقام تَدفع إلى التفكير بأنّ عدد العابرين غير النظاميّين قابلٌ للازدياد على المدى القريب، وأنّه كلّما غدتْ شروط الذهاب إلى أوروبا أصعب، زاد ارتفاعُ الأسعار حدّةً. * ينشر بالتزامن مع دورية «أفق» الإلكترونيّة الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي