عندما تتخذ منظومة إعلامية كبرى بحجم «قناة العربية» قرارًا إستراتيجيًا بنقل عملياتها التحريرية والتشغيلية والإدارية بالكامل إلى العاصمة الرياض، فإنها لا تغيّر موقعًا جغرافيًا فحسب، بل تعيد ترسيم خريطة التأثير الإعلامي في المنطقة. فهذه القناة التي أثبتت حضورها على مدى سنوات في تشكيل الرأي العام، لم تكن مجرد ناقل للأحداث، بل كانت في أحيان كثيرة جزءًا من صناعتها. واختيارها اليوم التموضع في قلب العاصمة السعودية، هو تموضع في صميم القرار السياسي والاقتصادي العربي، وإشارة بالغة الدلالة إلى أن الرياض باتت المركز الأهم لصناعة الحدث لا متابعته فقط. وفي ضوء هذه النقلة، يمكن القول إن المملكة العربية السعودية تواصل تعزيز مكانتها كمركز محوري في المعادلة الإعلامية والسياسية والاقتصادية الإقليمية. وهذا ما عبّر عنه معالي وزير الإعلام الأستاذ سلمان الدوسري حين قال إن الانتقال «ليس مجرد نقل مكان، بل انتقال إلى قلب الحدث السياسي والاقتصادي». فالبنية التحتية المتطورة التي تحتضنها الرياض، إلى جانب البيئة التشريعية الحديثة، جعلتا منها وجهة طبيعية لمؤسسات الإعلام العالمية. بيئة تشريعية تصنع التحول من المهم التأكيد أن هذا الحراك الإعلامي لم يأتِ من فراغ، بل تأسّس على بيئة قانونية وتنظيمية شهدت تحولات نوعية خلال العهد الزاهر لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وسمو ولي عهده الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – حيث أصبحت الأنظمة والتشريعات عامل جذب فاعل، ومحركًا رئيسًا في اتخاذ مثل هذه القرارات. فنظام الإعلام الجديد الذي أُقر مؤخرًا، وما سبقه من حزمة تشريعات وتعديلات، أسهمت في تنظيم الصناعة وتطويرها، وتحفيز اقتصادها، وتعزيز المحتوى المحلي، مع احترام القيم السعودية، وتكريس مبادئ الشفافية والمساءلة. لقد شكّل هذا النظام إطارًا قانونيًا متكاملًا لتمكين القطاع الإعلامي، وتعزيز قدرته على المنافسة إقليميًا وعالميًا. كما أن تعديلات الأنظمة ذات الصلة بحرية الاستثمار الأجنبي، والملكية، والمناطق الإعلامية الحرة، لعبت دورًا كبيرًا في جذب الشركات العالمية لنقل مقراتها الإقليمية إلى المملكة، خاصة مع ما صاحب ذلك من تسهيلات كبيرة في إجراءات التراخيص، وتقليل البيروقراطية، وتمكين الكفاءات المحلية. هذه الخطوة المفصلية ستُحدث بلا شك تحوّلًا في خارطة الإعلام العربي، وستفتح فصلًا جديدًا في مسيرة قناة العربية، بما تمتلكه من مصداقية ومهنية. فمكاتبها الجديدة في الرياض تحتوي على أستوديوهات مجهزة بأحدث التقنيات الإعلامية غير المسبوقة في المنطقة، ما سيمكّنها من إنتاج محتوى إخباري وبرامجي بمواصفات عالمية. والمكاسب هنا لن تتوقف عند القناة فقط، بل ستطال البيئة الإعلامية السعودية ككل. فمن المتوقع أن تُشجع هذه الخطوة مؤسسات إعلامية إقليمية وعالمية أخرى على اتخاذ قرار مماثل، بما ينعكس على التنافسية، ودعم المحتوى المحلي، وتعزيز التفاعل مع الفعاليات الوطنية والقرارات الحكومية، فضلًا عن تعظيم الدور الترويجي للمملكة باعتبارها من أسرع البيئات الاستثمارية والسياحية نموًا في العالم. كما أن ارتباط الإعلام بشكل وثيق مع قطاعي الثقافة والترفيه – اللذين يشهدان بدورهما نهضة كبرى – يمنح مزيدًا من الزخم لهذا الانتقال، ويعزز تكامل الأدوار في تشكيل الوعي العام وصناعة الصورة الذهنية عن المملكة. الانتقال إلى الرياض لا يقتصر على الجغرافيا؛ بل يمثل بداية لمرحلة أكثر حساسية تتطلب تكثيف الجهود الإعلامية في الداخل والخارج، خاصة في ظل حملات التشويه التي تستهدف النجاحات الوطنية. لقد برهنت «العربية» وغيرها من القنوات الوطنية على التزامها الدائم بخدمة الشأن العام، والدفاع عن مكتسبات الوطن، والتصدي لكل حملات التضليل، لكنها اليوم مطالَبة بتطوير أدواتها وخطابها لمخاطبة الآخر بلغة مؤثرة وواقعية. وهذا يتطلب التوجه نحو مراكز القرار العالمية بخطاب احترافي، بعيدًا عن اللغة الإنشائية، قائم على الأرقام والحقائق والدراسات، وبالشراكة مع مراكز البحوث العالمية المؤثرة. كما أن تعزيز التعاون مع الجهات الوطنية المختلفة سيسهم في نقل الصورة السعودية الحقيقية كما هي: بلد يحرص على حسن الجوار، ويرسخ الوسطية، ويكافح خطاب الكراهية، وينجح في اجتثاث التطرف، ويقود معركة حقيقية ضد الفساد. هذه المهمة ليست سهلة، لكنها ضرورية، وأنا على يقين بأن «العربية» وأخواتها في المشهد الإعلامي السعودي قادرون على أدائها بكفاءة، وأن انتقالها إلى الرياض لن يكون مجرد عنوان جغرافي، بل علامة فارقة في تموضع الإعلام العربي من جديد.