يُزعم كثيرًا أنه حتى تحيا المرأة حياة مكتملة تجمع فيها أطراف المجد، وتبلغ ذرى النجاح، فلابد لها ألا ترتبط بزوج، أو تنشغل بأسرة تخصّها، بل وإن هذا الإنجاز على حد زعمهم بالنسبة لها يُغني ويسد ما خلافه من عوز واحتياج، وإن الصداقات تعوِّض، وإن الاستقلال غاية الغايات ومنتهى الأمنيات. وليس في هذا القول عيبٌ ظاهر، فمن منا لا يرنو إلى حياة كهذه، بيد أنه «هذا الزعم» يتجاهل على نحو فادح صوتًا خفيًّا متأصلا في فؤاد كل امرأة، لا يُغطيه المجد ولا تُسكته المشاغل والالتزامات، ولا المناصب، صوتٌ لا يسمعه إلا من طال به الطريق دون مؤنس. لست هنا بصدد فرض رأي ولا تفنيد مزاعم، بقدر ما هي محاولة لفتح نافذة نحو الحقيقة التي قد تُخفِيها أضواء السؤدد المؤقت لدى البعض، وبيان أن في الزوج والأبناء، والبيت والعائلة، ما لا تمنحه الحياة البديلة، مهما تبهرجت ألوانها وارتقت أنماطها، بل وتزيدها في الغالب متعة وإثاره. فحين يغيب المؤنس، لا تغيب الصورة فحسب، بل يخبو الصوت الداخلي الذي كان يساجل وحدة الإنسان بأنين خفي، ويطفئ نار الضجر بماء القربى، فالقلوب، وإن اشتدت قدرتها على الصبر والجلَد، يختلسها العمر في لحظة واحدة إذا ما نُزعت منها اللهفة إلى من يُمسك بأطراف الحكاية معها، ويمسح غبار الركض عن وجه أيامها، ولو بكلمة تُهمس في هُدأة من الليل. كم من أخت وابنة لنا مشت على الأرض منفردة، يراها الناس تبتسم في كل مناسبة، تصافح في الأعياد، وتجلس على الطاولات، تدلي بدلائها، تارة تعزز وأخرى تعترض، وكأنها جزء مترسخ لم ولن يتزعزع من ضجيج الحياة وزحمة الأيام، وقد أضحى قلبها كغرفَة خلَت منها الأنفاس، إلا من هباء لا يكاد يلحظه الرائي، لا يطرق بابها بشر، ولا يمر بها حنين إلا وعاد منها منكسرًا وهو حسير. فوحدة القلب في زحمة الحياة أبلغ ما يعانيه الإنسان حين تملي عليه ضريبة النجاح بأن يكون دومًا حاضرًا، متوهّجًا، كريمًا معطاء، وهو في داخله يتفتّت كأحجار دفنها سيل ثم جفّ عنها الماء، فها هي ظاهرة للعين، منطفئة في جوف الأرض، تضمحل واقفة. إننا يا سادة لا ننهار حين ننعزل وننكب على أنفسنا، بل ننهار حين يُخيّل إلينا أننا في دائرة الناس واهتماماتهم، بينما نحن في هامش «ال لا أحد»، وأن كل ما نلحظه ليس إلا تصفيق جمهور لا يلبث أن يخبو وكأنه لم يكن. تتبعت جامعة هارفارد في عام 1938م حياة مئات من الرجال والنساء، تتفقد نفسياتهم، وترصد معاناتهم، وتدوّن مسارات سعادتهم في دراسة علمية مستفيضة ومتجردة عنوانها (Harvard Study of Adult Development). توصلوا فيها إلى حقيقة بسيطة وأحسبها الأكثر وقعًا في النفس: ما السعادة الحقّة إلا في العلاقات الإنسانية الدافئة بعد علاقتنا مع خالقنا -عزوجل- وما الطمأنينة الخالصة إلا في وجود شخص يقاسمك الدنيا بحلوها ومرّها، وأن السعادة النقية ليست في جيبك، ولا في مجدك، بل في يدٍ تأخذ بيدك حين تتحسّس مكانها. فكيف للمرأة، وهي كائن أرهف حسًا وأرق نفسًا، أن تمضي في طريق العمر بلا ظل يرافق خطاها؟، وكيف لقلبها أن يزدهر إن لم يكن هنالك من يحتفظ بها في داخلة كبذرة نقية نادرة؟. ما أكثر ما يخاتل الإنسان نفسه ويوهمها، ولا ينفك يقنعها بأن ضجيج الحياة، والاكتفاء بالنفس قوة وضرب من العصامية المحمودة، وأن الطمأنينة تُزرع في أوعية الاستقلال والتفرد لا غير، لكنه لا يلبث أن يُدرك، بعد سكون الليل وطول الصمت ومضي العمر، أنه يفتقد شخصًا لا يحتاج أن يفسر له ترقرق عينيه دمعًا، ولا إلى تبرير ارتعاش أنفاسه في لحظة وهن. هذا هو اضطراب النفس وقلق الروح، لا تشخصه العيادات، ولا تدركه الموازين العلمية، إنه انحدار بطيء في دروب الصمت العاطفي الخفي. فكم من الأرواح تحيا في أجساد سليمة، وقد أصابها عطب في أجنحة كانت تحلّق بها نحو معنى الحياة الأجمل والأجود والأدوم، على حد زعمها.. وكم من امرأة نجت من الفشل آلاف المرّات، لكنها لم تنجُ من هذا الفراغ الموحش الوجود، فراغ يجعلها لا تنفك تراقب نفسها وهي تذوي شيئًا فشيئًا، دون نحيب، دون بكاء، ودون أن يلتفت إليها من يقول: «كيف حال قلبك اليوم؟»، ولو على سبيل المجاملة. أما رهبة ما تُخبّئه السنون المقبلة، فهي الرهبة التي لا تتكلّم عنها امرأة حكمت على نفسها بالتفرد، لا لأنها لا تستحق الذكر، بل لأنها رهبة موجعة أيما وجع، تلك الرهبة التي تنتابها مع كل شعرة بيضاء، مع كل موعد طبيب، مع كل ليلة يعود فيها الناس إلى بيوت فيها من ينتظرهم، فتعود هي إلى الصمت وكتاب قديم، أو حائط لا يُجيب، أو جوال قد غص بالأسماء والذكريات، إنها الرهبة من الغد، حين لا يكون للمرأة من يقول لها: «سأكون معك لا لشيء إلا أنت». وما أصعب أن تشعر النفس أنها تتقن كل أدوار الحياة إلا دور الاكتمال، فنقصان الشعور بالكمال والسكينة ليس عيبًا خلقيًا، ولا نقصًا في الإنجاز أو القيمة، إنه صوت داخلي يهمس: أحتاج إلى من أكون أنا أمامه دون رتوش أو أقنعه، أحتاج من أضع بين يديه ضعفي لا ليُصلحه، بل ليفهمه ويحتويه. وحين نقف أمام مرآة العمر الطويل، ونتساءل: أين الملامح التي لم تذبُل؟ ندرك أن المرآة لم تكن يومًا زجاجًا يعكس الوجه وحسب، بل كانت مرآة تُبدي لنا النقص في دواخلنا، ذلك النقص الذي لا يُكمِله إلا المودّة والرحمة، ولا يُعوّضه إلا أن نجد في أحدهم امتدادًا لذواتنا. قد ننجح، ونظهر، ونبدع، ونمتلك، لكننا، من دون من يُنصت إلى نبض أرواحنا، فنحن أشبه ما نكون بحكايات جميلة أخاذة بلا قارئ، أو قصائد منمقة باذخة لم تُلقَ يومًا على من يُجيد الإصغاء.