قالت لي ابنتي آمنة في مونتريال: دعنا نسجل لك ولو عشر ساعات بالصوت والصورة عن تاريخك وما هي المحطات التي مررت بها، ثم الأهم تسجيل الأحداث التي عاصرت، ثم بدأت فسجلت ساعة كانت جيدة. قالت لي ابنتي: من المهم أن تكتب مذكراتك الشخصية، قلت لها هذا مسجل عندي. وفي نيتي أن أكتب ثلاثة أجزاء؛ ربما كان كل جزء في مائتي صفحة عن رحلتي الأولى في سوريا، التي أظن أنني يجب أن أغسل يدي منها إلى نصف قرن. ستتغير سوريا ولكنه مخاض مخيف، وعقابيل وخيمة، ودماء لا تنام، وأحقاد بقدر الجبال الراسيات، وعداوات لا تنطفئ نيرانها؛ فقد تمزق النسيج الاجتماعي السوري إلى حقبة طويلة، وأفرزت الثورة جيلاً جديداً، وعلاقات جديدة بين البشر. وفي نيتي أن أكتب الجزء الثاني عن تجربتي في ألمانيا، فقد عرفتها أكثر من كفي وأكثر من سوريا، حيث عشت الربع الأول من حياتي. ثم تأتي رحلتي في المملكة، وهي أيضاً تأخذ ما لا يقل عن ربع حياتي الثالث، فيها المُر والحلو والحامض، والعذابات والتوترات، مع رحلة البناء المعرفي، والتبتل العلمي، والدخول إلى عالم الصحافة. وفي النهاية تأتي كندا بشجر القيقب، حيث جمال المناخ، وحسن التنظيم واحترام الإنسان دون تمييز، واحترام الوقت، وتشجيع الإبداع، والتوجه إلى المستقبل في مجتمع مستقر، ومعها المغرب الجميل حيث أودع الحياة مع الربع الأخير من العمر. وأدعوه ربي أن يُحسن ختامي؛ فتكون خير لحظاتي لحظات توديع الحياة الفانية والاستعداد للرحلة الأبدية، وإليه ترجعون. كتابة المذكرات تعطي متعة خاصة، وأنصح بها قرائي. كان أول دفتر من رجل الشرطة عارف الصديق الوفي الذي أتاني بدفتر مخصص لمخالفات الشرطة فأعجبني حجمه وخطه فبدأت أول المذكرات عام 1973م. ثم نصحني الأستاذ جودت حين ذهبت إلى ألمانيا وهي نصيحة أقولها لكل أخ. قال: ستتحول الصور الاجتماعية عادية عندك بعد عدة أشهر. حاول أن تسجل ملاحظاتك بسرعة في الأشهر الأولى، وكان محقاً في ذلك؛ فسجلت دفتراً عامراً، كان بالأصل مخصصاً للروزنامة السنوية؛ فامتلأ بجميل العبارات من قنص الخاطر والملاحظات. تابعت التسجيل وأصبح سجية عندي، وأطوره طبقاً عن طبق. دفتر الملاحظات أو اليوميات الأخير تركته صفحتين؛ واحدة أقطع لها من الجرائد والمجلات ما طاب لي من صورة وبحث ومقالة فألصقه بالصفحة الأولى، أما الصفحة الأخرى فهي للروائع من الأفكار التي ترد. وكذلك مسلسل القصص والحوادث واللقاءات والأناس والمحاضرات ممن أقدم وأجتمع وأرى. إنها متعة أنصح بها القارئ حتى تتشكل عنده خصلة وسجية. قرأت كثيراً من المذكرات الشخصية عن مفكرين شتى؛ فعرفت منهم وعنهم أكثر من كل ما كتبوا؛ لأن الكتابة هنا تجربة شخصية مَعيشة. وهو ما أنصح به قرائي، ولكن من يطبِّق هم أقل من عنصر اليورانيوم في الطبيعة.