قبل أربعين عاماً كان يزرع «الأشجار» في كل جهة من جهات المملكة، حين تنقل بين مدن سعودية كثيرة بصفة «رئيس البلدية»، أما اليوم فإنه يكرّس جهده الفكري لزراعة الوعي والتفكير العلمي والإبداعي، ليس في المملكة فحسب، وإنما في جميع أرجاء «الأمة»، كما يعبر دائماً! وعندما تقرأ في سيرة المفكر (والفيلسوف) إبراهيم البليهي، فستفاجأ بأن هذا المعلم الكبير لم يدرس الفكر والفلسفة في المعاهد والجامعات الخارجية (الجامعات السعودية لا تدرس الفلسفة حتى الآن!)، بل وحتى دراسته الثانوية والجامعية فإنه أتمّها بالانتساب! كل ما حققه البليهي كان ثمرة لبقائه بعيداً عن المؤسسات! إنه صناعة نفسه فحسب! هذا «التفرد» زرع في البليهي كثيراً من القيم التي لا يفتأ أن يدعو إليها كلما تحاور مع جمهوره: «من يبحث بنفسه بدافع ذاتي تلقائي عن الحقيقة ويسعى للمعرفة بلهفة وشغف وشوق متجدد، ليس كمن يضطر لمواصلة الدراسة سنوات طويلة في ضجر وضيق وكلل ليحصل على شهادة للوجاهة والوظيفة واستجابة لإلحاح أهله أو لضغط المجتمع». ولهذا، أيضاً، يلاحظ البليهي أن «ملايين العرب من خريجي الجامعات في مختلف التخصصات وآلافاً من حملة الشهادات العليا الذين كلما زاد عددهم زاد تخلفنا، إنها مأساة ومهزلة» (وكأنه يُعلن انضمامه «عملياً» لحملة «هلكوني»!). البليهي، الذي اشتُهر بنزاهته وصرامته في «البلديات» التي عمل فيها منذ التسعينيات الهجرية (اُختير بعد تقاعده بعامين عضواً في مجلس الشورى)، يعكف حالياً على تأسيس علم جديد، اسماه «علم الجهل»، لكشف بنية الجهل الفظيعة، وهو يرى أن الجهل المركّب هو الأسبق والأرسخ سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الأمم، ولذلك فهو الأحق بالدراسة والأجدر بالاكتشاف! ولأن خبراته العملية تكونت في «البلدية»، فإن البليهي مؤمن تماماً بأن «الإنسان مشروع لا يتوقف فيه البناء والتحسين أبداً..». وعلى الرغم من تمدّد «بنية التخلف» الكبرى التي عمِلَ على إضاءتها منذ بداية مشواره الكتابي، إلا أن البليهي، المتهم بأنه لا يملُّ من تكرار نفسه، يجد على الأرض العربية، الآن، شيئاً جديداً يثير إعجابه: «الشباب العربي جعلته ظروف القهر والكبت والفساد واعياً ومُضيئاً أكثر من شباب المجتمعات المزدهرة» . بل إن مؤسس «علم الجهل» يصل إلى أبعد من ذلك، ربما إلى النقطة العليا من التفاؤل: «أصبحتُ شديد التفاؤل بمستقبل عربي مزدهر بعد أنْ كنتُ يائساً، إنها إشراقة العقول الفتية».