يحدثني زميلي ممتعضاً إثر مشاركته في لجنة تعاقد خارجي مع أطباء من دولة عربية متميزة بالتقدم الطبي، حيث إن نظام الخدمة المدنية لا يسمح لهم بالتعاقد مع من تجاوز السابعة والخمسين عاماً رغم لياقته الصحية وخبراته العلمية والمهنية، وفي المقابل فإنه يسمح بالتمديد وتجاوز ذلك العمر إلى 63 عاماً لمن في الداخل من المتعاقدين. وفي سياق آخر يأسف زميل آخر على تفويت فرصة للتعاقد مع بعض النجباء من غير السعوديين من خريجي التعليم الطبي الخاص في السعودية لاشتراط الأنظمة خبرة سنتين قبل التعاقد، لتتلقفهم أماكن أخرى وتستثمر في نجابتهم. أما أنا فقد سألت مجموعة من أبناء الوطن المتفوقين المتخرجين في كلية طب ناشئة عن تواصل وردهم من أي جهة لاستقطابهم فكان الجواب بالنفي. ما يجمع بين القصص الثلاث وبين غيرها في مجالات أخرى كالهندسة والتربية وعلوم الشريعة والنفس والاجتماع هي حالة الاستسلام للبيروقراطية في التعاطي مع الموارد البشرية المميزة وتركهم رهائن لدى آلية عقيمة قد تؤول بهم إلى خسف مواهبهم أو ارتحالها إلى آخرين يستفيدون منهم. وحيث غاب عن النظام الآلية التلقائية التي تعمل لفرز وتمييز العقول الوقادة فكذلك لا يوجد في تلك الأنظمة نوع من التفويض لصاحب قرار يتقن التقاط هذه الحالات ويكسر الروتين لكسبها للصالح العام، ومن يحاول فعل ذلك فإنه يمسي غير مفهوم في حس المحيطين به وربما اتهموه بوجود مصلحة تختبئ خلف هذا الاهتمام بذاك أو تلك. وعند تأمل المشهد الكروي -ولا أقول الرياضي- المحلي في حالته الاحترافية فإن فكرة مراقبة المواهب وانتقاء الأفضل، والتفاوض للحصول على النجم بعشرات الملايين أمر أصبح جزءاً من المهنة الكروية ولها أنظمتها وعرابوها. السؤال الذي يدور في الذهن هو كيف تمكنت ثقافة شراء المواهب من الأقدام ولم تتمكن من العقول؟ وكيف سمحنا بتفوق الأنظمة وتمدد الصلاحيات وبناء الأكاديميات للفئات السنية لكسب النجم الكروي وأغفلنا نجوم العلوم؟ أنا لا أقارن هنا رواتب اللاعبين برواتب العلماء فالفرق مفهوم -رغم المبالغة الكبيرة في الجانب الكروي- نظراً للصلاحية القصيرة في الميدان عند اللاعب، لكن أقارن تشريع حرية اختيار المواهب والتقاطها وتشجيعها بين مجالين يجمعهما أنظمة عليا لدولة واحدة. ولمن تزعجه هذه المقارنة بين العقل والقدم فأقول إن اسمها كرة «قدم» هذا أولاً، ثم إن مشهدنا الكروي المحلي داخل الملعب وخارجه لا يزال أسير القدم ولم يرتق بعد ليحل في حضرة العقل الكروي، وهذا ثانياً. أعود لشراء العقول وأقول إن الخلل لا يتعلق بالأنظمة فقط التي يمكن تغييرها، فللعملة وجه آخر يستخفي خلف تكويننا التربوي والاجتماعي. فأحيانا نبدو وكأننا بلا مشروع يقتضي حضور «العقلية التعاقدية» عند التعاطي مع الموارد البشرية، التي تستحضر الوطن كمشروع كبير متعالٍ على المصالح الضيقة. وأحيانا فإن العنصرية تحضر متبخترة خلف الذائقة الخاصة وتصبح الحالة الذوقية معياراً للنظر للكفاءات -زورا- وما هي إلا عنصرية بغيضة واستعلاء كاذب. وأحيانا فإن «الثقافة الآبائية» تقود طريقتنا في التفكير لتجعلنا منحازين فقط للكبار وطريقتهم مستعصين على التجديد وعلى الإيمان بعنصر الشباب، وعلى الاستعداد لتحمل تبعات بعث جيل يتخلق من جديد في ظرف مختلف. وأحايين كثيرة أو قليلة يبدو الفساد وتضارب المصالح عاملاً قذراً في إقصاء المميزين ذلك أن العلاقة بين الفساد المالي والإداري وبين المكوث الطويل في الموقع طردية الاحتمال. مقابل كل هذا النقد فإن المؤشرات توحي بالتفات للمواهب ومأسسة التعاطي معها، لكن هذه المقاربات تبدو مشوشة ومصابة ببعض آفات التكوين الذاتي، فالإعلام -مثلا- حين يقود هذا الأمر يبدو ملمعاً مطهراً متجاوزاً الواقعية وما طريقة عرض إنجازات بعض المبتعثين الذين نعول عليهم كثيراً لتغيير واقع الموارد البشرية إلا مثال ظاهر هنا على الحالة الإعلامية المرتبكة. قالوا قديماً «العقل السليم في الجسم السليم» ونقول الآن «العقل السليم في الوطن السليم».