ينشر هذا المقال في وسط العشر الوسطى من رمضان المبارك، وفيها، أي هذه العشر حدثان مهمان أثرا في مسيرة الإسلام أيما تأثير، هما غزوة بدر، التي سمى الله يومها (يوم الفرقان) وفتح مكة الذي سمى الله التوطئة له بالفتح المبين (إنا فتحنا لك فتحا مبينا). ولا ينبغي أن يمر هذان الحدثان دون تأمل فيهما، وتذكرهما والوقوف عند دروسهما، وحمدِ الله تعالى على نعمته بهما. وأحداث النصر والفتح في رمضان كثيرة، بدأت من تلك الليلة التي أشرقت فيها أوائل سورة العلق، لترتقي بالفكر والعقل ، وتسمو بالنفس ، وتعلو بالأخلاق إلى ذروتها . إن يوم بدر، ويوم الفتح بدأت قصتهما مع نزول (اقرأ) في رمضان أيضا، والرابط بين هذه الأحداث الثلاثة بينٌ لمن تأمل، فقد بدأت قصة النصر برجل، ثم بقوم كانوا أذلة، ثم جاء الجيش المكوّن من أكثر من عشرة آلاف مقاتل، ليظفر بالفتح، وأعقب ذلك أن دخل الناس في دين الله أفواجا. والأمة الإسلامية في عصرنا الحاضر تعاني ذلة، لكنها ليست ذلة مشابهة لأهل بدر، فقد كانت الذلة حينذاك لقلة العدد وعدم الناصر، وقلة ذات اليد، والضعف المحيط بتلك العصبة من كل جانب. والأمة اليوم تستطيع حشد جيش يشبه السيل العرمرم، فهي كثير، فمشكلتها في ذلة ليست عن قلة، بل مشكلتها في ذلة بسبب ابتعادها عن (اقرأ) ومنهج (اقرأ)! فلما بعدت الأمة عن المنهج الذي جاءت به (اقرأ) وخالفته في كثير من نواحي حياتها، بعدا في حياتها السياسية والاجتماعية والعلمية والتربوية، كانت النتيجة ذلة متراكبة، مع تنامي الخيرات فيها، ومع مواقعها الإستراتيجية، ومع عقول بنيها الذين نزحوا لبعد الأمة عن (اقرأ) إلى بلاد الغرب حيث يجدون ذواتهم، ويمكنون من البحث والعمل والإنتاج، ويجدون الحرية والتشجيع على الاختراع والإبداع . بينما نامت الأمة على سرير وثير من الدعة والاسترخاء تنتظر جود العدو وكرمه ، وتحتمي به، وتركن إليه ، وتعجب بأنظمته وقوانينه وديمقراطيته. إن تلك الكلمات اليسيرات التي أضاءت جوانب تلك الليلة المظلمة من رمضان، كانت نواة إشراقة الحق، ونور العدل والحرية والكمال الأخلاقي، حيث أعطي كل ذي حق حقه . فلم يكن لبدر أن تولد، ولا للفتح أن يوجد، لولا أن خط سير الحياة انتظم بعد أن نزلت (اقرأ)، فلما استقامت حياة الناس وصفت قلوبهم ، وبذلوا مهجهم وأموالهم في سبيل الحق كانوا حريين بالنصر وهم أذلة، وجديرين بالفتح وهم أعزة، فالأمة التي تسير على خطى (اقرأ) لا بد أن تكون عزيزة النفس، رافعة الرأس ، لأنها لا يمكن أن تتنازل عن قيم تربت عليها من خلال (اقرأ) بل هي على استعداد تام لبذل الغالي والنفيس في سبيل ترسيخ تلك القيم، والذود عنها. ولعل من حكمة الله تعالى أن خرج المسلمون إلى بدر لا يريدون قتالا، وربما لو علموا بحتمية النزال لما خرجوا، فالمقومات لا تقول بنصر أبدا، ومن حكمة الله إذ جعل نفس المقومات التي ترجح نصرة العدو وغلبته لا جدال فيها، فكانت محفزة للعدو كي يصر على القتال، ليقضي على النبتة الجديدة في مهدها، ولكن الله أراد أن يقضي أمرا كان مفعولا، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيى من حي عن بينة. ومن هنا فإن مما تربت عليه الأمة بعد (اقرأ) أن تصبر وتبذل وتؤثر وتجاهد وتضحي، ولما غفلت عن هذه الدروس في أُحد كانت النتيجة كارثية، حتى كادوا يفقدون أعز ما يحبون، رسول الله، صلى الله عليه وسلم . لقد كان الدرس قاسيا، لكنهم تعلموا منه جيدا، فلم تكن الدنيا بعد ذلك اليوم تقدر أن تغر أحدهم . وكان يوم الحديبية، توطئة للفتح، ودرسا تدريبيا قبله ، فلما صبروا على الابتلاء بالرجوع دون أن يطوفوا بالبيت الذي فضخ قلوبهم الشوق إليه، وأذعنوا لبنود الصلح المجحفة ظاهرا، واستسلموا لأمر الله ورسوله، علم الله ما في قلوبهم، فأنزل السكينة عليهم، وأثابهم فتحا قريبا. فعادت الدروس كلها تُستَلهم من (اقرأ)، فليت أمتي تقرأ، تقرأ سيرة نبيها، صلى الله عليه وسلم ، وسيرة خلفائه، رضي الله عنهم، وسيرة العظماء منها، وتاريخ فتوحاتها، وتاريخ تضحياتها، وحتى هزائمها، ونكباتها، تقرأ سيرة العادلين، وسيرة الظالمين، لتتضح لها كيف كانت العاقبة لهؤلاء، وكيف كانت الدائرة على هؤلاء. (اقرأ) واسمع، وتدبر، فإن عمر قال تلك الكلمات العظيمة منذ قرون طويلة : (نحن أمة أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله)! كم من بني قومي من يحفظ هذه العبارة ، ويقرؤها ، ويرددها، ولكنه عن معناها ومقتضاها وأسبابها بعيد جدا، بعيد عن (اقرأ) التي جاءت بالإسلام، وجاء بها الإسلام الذي أعز الله به تلك العصبة، وهم أذلة، ومن عليهم فكثرهم، وأورثهم أرض العدو وأمواله ودياره . فإذا أرادت الأمة نصرا مع ذلتها، واجتماعا مع كثرتها، فلا بد لها أن تحمل نفس الراية، وتعود إلى المنبع الأصلي، ذلك الكتاب الذي تصدح بآياته مكبرات الصوت في هذه الليالي المباركات، وتصغي إليه الآذان، وتترنم به الشفاه ، لكنه لم يدخل بعد إلى القلوب ، ولم يصبح واقعا كما في صفة الأولين، حيث كان أحدهم قرآنا يمشي على الأرض، إلا تفعلوه فلا تنتظروا نصرا، ولا تمكينا، وترقبوا النكسة بعد النكبة، والله هو الولي .