إذا كانت أيام العيد أيام فرح وسرور، ففي ليلة عيد استعادة لا يخلو منها مصاب بالتحديق، استعادة لوميض ذكريات عبرت كما تعبر سنوات الحياة القصيرة، وهي تخلف ذكرى فقد أو وقفات حنين. ليله العيد شريط يتراءى لذكريات عبرت، عقود مضت، لم تكن حلما عابرا، ولم تكن محطات بلا توقف. صور تتحرك بين مشاهد تفترّ عن بعضها ابتسامة واهنة أو اشتياق ملهم لمناجاة من رحلوا. في ليلة عيد تهطل فيها سحائب الرحمات مع سحائب الذكريات أليست ليلة أثيرة لتجتلي هذا الصخب وهذا الحضور وهذه الصور، تستدعي مراحل عبرت، ووجوهاً رحلت، وحكايات لم تروَ بعد ألا تشتاقون؟ بلى، ومن الشوق ما استدر لواعج الحنين. كانوا هناك. كانوا ليلة عيد، فرحا واشتياقا، حضورا وترقبا، كانوا تفاصيل صغيرة هي جزء منا، بعض منا رحل وبعض مازال يرقب ليلة عيد. كانوا هناك. ملامح رسمت أخاديد في وجه لوّنه تاريخ الترحل. تتسرب من أرديتها رائحة الطين، وأخرى تغري بالاقتراب أكثر حتى بعد ربع قرن من الرحيل. وجوه تحرث الذكريات، لا شيء غير الذكريات، وميض تدفق، وعناوين الحضور الذي كان. ليلة العيد، ليلة فرح وسرور، ولكنها ليلة استعادة لا تبرح تعاود مكانها كل عام، وكأنها لا تريد الرحيل حتى انبلاج الصباح. باقية بقاء تلك الومضات من ذكريات تعاود المجيء، ووجوه تعاود الإلحاح ..إنها ليلة ليست ككل ليلة .. إنها ليلة عيد. الذكريات سجن أم رسالة شوق دفين تأتي بلا ترقب؟ لماذا تلحّ في ليلة عيد؟ حتى لتصبح تلك الليلة شهادة على عمق هذا الحرث في ذات تصحو على الحلم وتنام على الذكرى. الانعتاق من صخب الذكريات انعتاق من الذات، وانفصال من تلك الأرواح التي طالما أعطت تلك الليلة شيئا من طعمها ولونها وطقوسها. رحلت وقد تركت فينا بقيتها واستودعتنا جزءاً منها. من يقوى على الانعتاق بل من يقوى على تجاهل ما استودعته فيه؟ هل يصيبكم وابل من تلك اللحظات؟ أم أنها تولد في عين لا تمل من التحديق في تلك التفاصيل، وهي تلح في هذه الليلة المباركة، كتلك الأيدي والقلوب التي طالما أطعمت وسقت ومسحت بعض شقائنا ووجعنا. راحلون نعم، ولكن باقون في تلافيف الذكرى على أعتاب الخمسين. بل إنها اليوم أكثر إلحاحا وأكثر معاودة من ذي قبل. إنهم باقون في أعماقنا وان رحلت أجسادهم عنا منذ عقود. وكم كان السؤال: لماذا تلك الليلة وحدها تصر على استدعاء الوجوه والمشاهد المتوارية في تلافيف الماضي، حتى كأن يوم العيد لا يأتي دون أن يمروا واحدا تلو الآخر، هل يشاركوننا فرحة العيد وفقدهم حزننا القديم الجديد؟ لماذا في تلك الليلة تترى المشاهد البعيدة القريبة، شريط يتحرك بلا توقف، يستعيدك لتفاصيل كأنك تتذكرها للوهلة الأولى، يحرك لواعج لم تعاودك منذ حين. لماذا فقط في تلك الليلة تستدعيك تباريح وجد الصبا والحنين، وأيام خوالٍ لم تواريها أسئلة الماضي ولا دهشة الغياب السريع، وملامح رفاق عبروا الدنيا؟ قبل عام كانوا مواقف وشواهد وحكايات، فالعيد هذا العام ليس ككل عيد. إنه إعلان العيد الأول بعد الرحيل. مرّ عام أيها الرفاق الراحلون، سرق منا بهجة الرفقة، وأورثنا وجعا وحنينا، وها أنتم تتوافدون ليلة عيد، إنه عيدكم الأول بعد الغياب.. ومن منا لا يكترث بالتوقف عند أبواب الانتظار. ومن ملامح التوقف والتحديق سؤال النهايات. هل بدأت تفرط سبحة العمر؟ وحده الإيمان طريق مأثور ووعد كريم من أكرم الأكرمين أعظم من نذر المحرضين على القلق من تلك النهايات. هاهي تلوّح بالسؤال خلف السؤال في ليلة عيد. ألسنا شهود عيد هذا العام، فهل سنكون شهود عيد قادم أم سنكون بعض ذكرى عبرت... ليحدق موجود آخر يستعيد في ليلة عيد ذكرانا بعد الرحيل؟ ومن ملامح التوقف والتحديق قراءة الوجوه ليلة عيد. يا ترى ما الذي تغير خلال تلك العقود. هل تدغدغ مشاعر هؤلاء الصغار ما كان يلح علينا وتنتشي به نفوسنا حينذاك، هل كان الفارق أن فرحنا كان يتجدد كل عام مرة، بينما توارت مواسم الفرح اليوم، فليس ثمة جديد في عيونهم؟ هل كان الحرمان جميلا حتى ليشعل أحداق الفرحة الغامرة التي لا تتجدد إلا بانتظار أيام لا تشبهها أيام، ولا تأتي إلا عاما بعد عام؟ ومن محطات التوقف والتحديق تلك التحولات التي أصابت الكثيرين، حتى صار العيد طقوسا باردة تؤدى بدافع الواجب الثقيل لا الاقتراب الجميل. وتلك العلاقات التي ترسم ملامح جماعات وجماعات، لا تجد نفسها إلا في محيط أصغر يتضاءل وهو يستهلك ذاته في تكرار ممل بليد. وهل صار العيد موسم سفر آخر بعد أن كان موسم لقاء والتقاء وعنوان صفاء واستدعاء، يستل خيطا من الوجد، وخيطا من الارتماء في حضن انتماء لا بديل عنه؟ ومن أطياف الحنين والشوق لتلك الأيام الرواحل، أن دائرتها الصغيرة كانت بسعة الكون، لم تقرض بعدُ في صفائها حدودها المكانية القاسية والغافية. لم يكن السؤال المرهق ماذا سيكون الغد؟ كان دائما سؤال الانتشاء بما يتوفر ويعود ويتحقق. كان انتظارا جميلا لانبلاج صباح يوم عيد حضورا وطقوسا ومواسم فرح لا تعلن عن نفسها إلا في العام مرة، فلا تمر بلا نشوة الصخب الجميل. وبين عام وعام تحفل الذاكرة بمفاصل ومحطات توقف ومنعطفات حياة تتسع دائرتها لتصل إلى حدود أطراف أمة تهرب من ذاتها. هل ثمة أفق بين عام وعام، إلا فيما تحمله هذه الأمة من إيمان بقدرتها على النهوض رغم عظم المأزق وكلفة التحول والقلق الكبير من حالة هزيمة أو استسلام؟ ومن الدائرة الصغرى إلى الكبرى تتقاطع المشاهد والتحولات في عين مازالت تحدق بها الأوجاع. أمة تعاود كل عيد حنينها لمجد لا تقوى على مقاربته بعد هذه الطامات الكبرى والسواد الحالك والمأزق الكبير. تترحل المشاهد بين الداخل والخارج، تصرخ فينا أسئلة التوقف وأسئلة الانجاز وأسئلة المعنى التي لا تواري غيابها أسئلة الدهشة حتى ليلة عيد. في ليلة عيد تصرخ وتنتشي رائحة الطين، حيث يعاود الأحياء الحنين للمَواطن الأولى. خيط من حنين وحفنة من طين، مهما بلغت مسافات السفر، ومهما حطت رحال العابرين بين القارات وعلى ضفاف المحيطات. خيط من الوجد وخيط من السهد يبحث عن ملامحه في وجوه الراحلين. صامدة تلك الملامح كجذوع أشجار نخيل غادرتها الحياة، وظلت شاهد امتنان لسواعد مرت من هنا لتنتزع من الأرض رمق الحياة، وبقايا جدران طين تحكي قصة مَن صارع الجفاف والقحط وغوائل الدهر لتبقى تلك الجدران تهزم في العابرين شهوة النسيان، وقصة مَن يقلق على تلك الذاكرة من أن تلتهمها مدن الملح وهي تستل ذلك الخيط المشدود لمدن الطين التي كانت. في ليلة عيد تهطل فيها سحائب الرحمات مع سحائب الذكريات أليست ليلة أثيرة لتجتلي هذا الصخب وهذا الحضور وهذه الصور، تستدعي مراحل عبرت، ووجوهاً رحلت، وحكايات لم تروَ بعد؟! عيدكم مبارك..