لا يُعتدّ بوحدة العنصر أو الدين أو اللغة أو الثقافة لتكوّن الأوطان. فمن الأوطان من هو متعدد في عنصره أو دينه أو لغته أو ثقافته، ومع ذلك فهو يؤلف وطناً كأي وطن آخر، وإذا ما تعرّض هذا الوطن لمتاعب من أي لون، فإن بالامكان حلّها بالوفاق أو بالديموقراطية. هذا ما يمكن استنتاجه من مؤتمر عُقد في بيروت قبل أيام وتمحور حول التجربتين السويسرية واللبنانية اللتين تتشابهان في أمور كثيرة، فإذا كان لبنان مؤلفاً من طوائف ومذاهب دينية، فإن سويسرا مؤلفة من «شعوب» بكل معنى الكلمة، ومع ذلك فهي بلد يُضرب المثل به في التقدم والحضارة ، ولكن سويسرا مرت في تاريخها بمثل أو بأفظع مما مرّ به لبنان لجهة الحروب التي نشبت بين إثنياتها قبل أن تُرسي نظامها السياسي الحالي الذي يقدّم تجربة رائدة في مجال تنظيم الجماعات التي تتشكل منها. وقد حفل المؤتمر الذي شارك فيه أكاديميون ومفكرون سويسريون ولبنانيون بآراء مستنيرة يمكنها أن تقدّم دروساً ثمينة للبنانيين في محنتهم المستمرة منذ سنوات بعيدة. أحد المتداخلين تحدّث عن «وحدة مع التعدّد ووفاق مع التنوع ودولة قوية مع لامركزية سياسية» في إشارة منه إلى «دواء» ناجع تناولته سويسرا فأوصلها إلى الصحة والعافية. وقال آخر: وبحق إنه لا يمكن تبني نظام آخر، إنما يمكن الإفادة منه. وكان ذلك في معرض الحديث عن النظام السويسري الذي وإن نجح في سويسرا، فلا يعني ذلك استيراده كما تستورد الساعات السويسرية.. ولكن السفير السويسري كان صريحاً عندما ذكر ان سويسرا ليست «جنة عدن» ولكن أخطاءنا في الداخل باتت أقل من السابق بكثير. ودافع أكثر من مفكر لبناني عن لبنان الذي "لم ينشأ بالصدفة والذي برز نفسه بما لا يحصى من إنجازات الحضارة". قال هؤلاء ان لبنان ليس بلداً حائراً، ولا كياناً مصطنعاً، وقد وصل إلى استقلاله بصورة طبيعية بعد مراحل من الحكم الذاتي في وقت كانت فيه المناطق العربية الأخرى خاضعة لنظام الولاية العثمانية. ولفت آخرون إلى أن النظام الديموقراطي البرلماني المعمول به في لبنان هو نظام برلماني ملبنن، وهو مزيج من وفاق ودستور. وإذا كان الدستور يلبي حاجة الدولة وحقوق المواطنين وواجباتهم، إلا ان الحكم في لبنان لا يستند إلى النصوص وحدها فالوفاق له مرتبة دستورية. وهناك إشارات واضحة في الدستور إلى وجوب الأخذ بالوفاق حتى في طريقة اتخاذ مجلس الوزراء قراراته حسبما ورد في المادة 65 من الدستور التي ذكرت التوافق قبل التصويت. هذا فضلاً عن قيمة «العيش المشترك» الذي ورد ذكره في مقدمة الدستور، بأن لا شرعية لأي سلطة تناقضه. هذا بعض ما عرضت له ندوة التجربتين السويسرية واللبنانية. ولكن ما لم تعرض له هو أن سويسرا لم تحقق وحدتها الوطنية، رغم التنافر بين مكوّناتها، إلا بعد أن قطعت الزعامات السويسرية النافذة يومها، كل صلة لها بمرجعياتها الخارجية من ألمانية أو فرنسية أو إيطالية، ودعت إلى حوار معمق فيما بينها أدى إلى التفاهم على قيام كيان وطني مستقل استقلالاً تاماً عن الدول الأوروبية المتناحرة فيما بينها، والتي كان يؤدي تناحرها إلى تلك الفتن والحروب التي عرفتها سويسرا في تاريخها، وهي من نوع الفتن والحروب التي عرفها لبنان في تاريخه الحديث. كانت تلك الدول الأوروبية تتعامل مع سويسرا على أنها «ساحة» مثالية لتصفية الصراعات فيما بينها، تماماً كما تعاملت دول عديدة مع لبنان، ولكن يقظة الوجدان الوطني عند السويسريين وضعت حداً لهذا الاستغلال الخارجي لهم ولبلادهم، وأدت بهم إلى قطع علاقتهم مع هذا الخارج، وعندما أمكن للسويسريين أن يجمعوا كلمتهم، وأن يُعلوا مصلحة بلدهم على أي مصلحة أخرى، أمكنهم قيام بلد موحد رغم تعدد مكوناته، ولغاته وثقافاته، كما أمكنهم بالتالي التوصل إلى صيغ قانونية ودستورية تنظم العلاقة بين هذه المكوّنات. يفتقد لبنان ما تمكنت سويسرا من تحقيقه. ثمة مراجع خارجية لبعض مكوناته كشعب، تحول دون قيام الوحدة الوطنية التي لا استقلال لأي بلد بدونها. إن «العصبية» التي تحدث عنها ابن خلدون في مقدمته، والتي اعتبرها أساس قيام الدول، ليست متوفرة عند قسم كبير من اللبنانيين؛ فالعصبية ليست للبنان، بل لسواه، ومصالح هذا السّوى هي الأجدر بالتلبية عنده. إن الروح اللبنانية التي يُفترض أن تجمع اللبنانيين، هي روح ضامرة ضعيفة بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إن الوطنية اللبنانية هي أضعف الوطنيات على الساحة اللبنانية لأن الولاء الحقيقي هو إما للطائفة أو للمذهب، أو لهذا البلد الخارجي أو ذاك، وما لم يتنبه اللبنانيون إلى نقطة النظام هذه، أو إلى نقطة الضعف البنيوية، فإن مسلسل الفتن والحروب، ومعه تعامل الآخرين مع لبنان «كساحة» لا كوطن، سيستمر إلى ما لا نهاية.