منذ فجر التاريخ، ظلّت الصحراءُ العربية مدرسةً مفتوحة على السماء، ينهل منها الإنسان دروس الصبر والمروءة، ويكتب على رمالها سطورًا من العزة والكبرياء، وحين وحّد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود – طيب الله ثراه – أرجاء الجزيرة، لم يكن يوحّد الأرض والقبائل فقط، بل كان يضع البذرة الأولى لمشروع حضاري عظيم: مشروع التعليم، فالدولة الحديثة لا تُبنى بالسيوف وحدها، بل تُشيَّد بعقولٍ متعلّمة، وأجيالٍ متسلّحة بالعلم والمعرفة. لقد ارتبطت النهضة السعودية منذ نشأتها بالتعليم، باعتباره حجر الزاوية لكل تحول اجتماعي واقتصادي، ففي مجتمعٍ غلبت عليه الأمية – حيث تجاوزت نسبتها 90% في بداية الثلاثينيات الميلادية – كان الاستثمار في التعليم أشبه بزرع النخيل في أرض قاحلة: يحتاج إلى صبر ورؤية وإيمان بالمستقبل، واليوم، بعد ما يقارب القرن، تقف المملكة العربية السعودية شامخة بين الأمم، وهي تروي قصةً مدهشة عن انتقالها من توطين البادية إلى توطين الذكاء الاصطناعي، ومن تعليم الكتاتيب البسيط إلى أرقى الجامعات ومراكز البحث العلمي. هذه المسيرة ليست مجرد أرقام جامدة، بل هي قصيدة مكتوبة بالحبر والعرق، بالحلم والإصرار، وبالتخطيط الاستراتيجي الذي جعل من التعليم بوابةً للازدهار والتنمية، ولعلّ الاحتفال باليوم الوطني السعودي يكتسب بُعدًا أعمق حين نستعيد هذه الرحلة، لأننا بذلك نحتفي ليس فقط بالوطن كجغرافيا، بل بالوطن كقصة نجاح إنسانية وعلمية. التعليم قبل التوحيد: الكتاتيب كمدرسة أولى: قبل توحيد المملكة، كان التعليم في شبه الجزيرة العربية محدودًا للغاية، يتركز في الكتاتيب الملحقة بالمساجد، هناك كان الأطفال يجلسون على الحصر، يتعلمون القرآن الكريم والكتابة وبعض المبادئ الحسابية على الألواح الخشبية. لم تكن هناك مناهج منظمة ولا معلمون مدرَّبون بالمعنى الحديث، بل كان «المطوّع» أو «الفقيه» هو الأستاذ والمربي والقدوة. تشير التقديرات التاريخية إلى أن عدد الكتاتيب في الحجاز وحده قبل عام 1932 بلغ نحو 200 كتّاب، بينما في نجد والمناطق الأخرى كانت أقل من ذلك، بينما كانت نسبة الأمية في المجتمع تتجاوز 90%، خصوصًا بين النساء، حيث لم تكن لهن فرص متاحة للتعليم. عهد الملك عبد العزيز: تأسيس البذرة الأولى: حين أعلن الملك عبد العزيز – رحمه الله – توحيد المملكة عام 1932، أدرك أن بناء الدولة الحديثة لا يكتمل دون تأسيس منظومة تعليمية قادرة على إنتاج جيل جديد، لذلك اتخذ خطوات مبكرة لدعم التعليم أهمها، إنشاء مديرية المعارف العامة (1926) في مكةالمكرمة، قبل إعلان التوحيد الرسمي بسنوات قليلة، لتكون أول جهاز إداري مسؤول عن التعليم، وافتتاح أول مدرسة نظامية حديثة وهي مدرسة دار الأيتام بمكة، وفي عام 1944، تأسست مدرسة دار التوحيد بالطائف، والتي كانت حجر الأساس للتعليم النظامي في المملكة، بحلول منتصف الأربعينيات، كان في المملكة حوالي 12 مدرسة ابتدائية حكومية، معظمها في الحجاز، ارتفع عدد الطلاب إلى ما يقارب 3.000 طالب فقط، بينما لم يكن هناك حضور يُذكر للفتيات في التعليم النظامي، كما أُرسلت أولى البعثات التعليمية إلى مصر عام 1927، وضمت نحو 14 طالبًا من أبناء مكةوالرياض والأحساء، ما يُظهر مبكرًا رؤية القيادة لأهمية الاستفادة من التجارب العربية الرائدة. لم يكن الطريق معبّدًا، فقد واجهت الدولة الفتية عدة عقبات وتحديات في طريقها من أهمها: مقاومة اجتماعية: بعض القبائل كانت ترى في التعليم «تشبّهًا بالغريب» أو خروجًا عن نمط الحياة التقليدي، وقلة الكوادر: لم يكن هناك معلمون سعوديون مؤهلون، فاعتمدت المملكة على المدرسين القادمين من مصر والسودان والشام، إضافة الى محدودية الموارد المالية: رغم أن النفط اكتُشف عام 1938، فإن عائداته لم تبدأ بالتدفق إلا بعد الحرب العالمية الثانية. مع انتقال الحكم إلى الملك سعود عام (1953– 1964)، بدأت مرحلة جديدة من أبرزها، تأسست وزارة المعارف رسميًا في العام نفسه، وأسندت إلى الأمير فهد بن عبدالعزيز (الملك لاحقًا) أول حقيبة وزارية للتعليم، خلال سنتين فقط من إنشائها، ارتفع عدد المدارس إلى أكثر من 200 مدرسة، وازداد عدد الطلاب إلى 30.000 طالب، بعدها بدأت أولى الخطوات الجادة لتعليم البنات، حيث صدرت التوجيهات الملكية عام 1956 بإنشاء مدارس للبنات تحت إشراف «الرئاسة العامة لتعليم البنات» التي ظهرت لاحقًا عام 1960. إن المرحلة الأولى من التعليم في المملكة، منذ توحيدها وحتى أوائل الخمسينيات، مثّلت تأسيس البذرة الأولى لمشروع حضاري ضخم، كانت البداية متواضعة بالأرقام، لكنها عظيمة بالمعنى والدلالة: من بضعة مدارس إلى مئات، ومن بضع مئات من الطلاب إلى عشرات الآلاف، الأهم أن التعليم أصبح قضية «دولة» وليست مبادرات فردية، وأصبح ضمن أولويات الحكم السعودي. التعليم في عهدي الملك سعود والملك فيصل (1953–1975) مع اعتلاء الملك سعود – رحمه الله – العرش عام 1953، وُلد التعليم في المملكة بصورته المؤسسية الحديثة، إذ أنشأ وزارة المعارف لتكون مسؤولة عن الإشراف على التعليم العام، وعُيِّن الأمير فهد بن عبد العزيز (الملك لاحقًا) أول وزير لها، هذه الخطوة التاريخية كانت بمثابة إعلان أن التعليم لم يعد مجرد مبادرات متفرقة، بل مشروع دولة شامل، حيث ارتفع عدد المدارس في غضون ثلاث سنوات من أقل من 200 مدرسة إلى أكثر من 400 مدرسة بحلول 1956، وقفز عدد الطلاب من 30 ألفًا إلى حوالي 70 ألف طالب، وبدأت أولى خطوات تعليم البنات، حيث صدر أمر ملكي عام 1956 بإنشاء مدارس للبنات، مع مراعاة خصوصية المجتمع آنذاك. تأسيس جامعة الملك سعود (1957): في عام 1957، شهدت المملكة ميلاد أول جامعة وهي جامعة الملك سعود بالرياض، لتكون المنارة الأكاديمية التي تنقل التعليم السعودي من مرحلة التعليم الأساسي إلى التعليم العالي، بدأت الجامعة بكلية الآداب، ثم توسعت لتشمل كليات العلوم، الطب، والهندسة، وبحلول 1965، وصل عدد طلابها إلى أكثر من 2.000 طالب، وعدد أعضاء هيئة التدريس إلى نحو 200، معظمهم من الدول العربية. عهد الملك فيصل: التوسع النوعي والكمّي 11430013970حين تولى الملك فيصل الحكم عام 1964، اتسمت المرحلة بالانضباط الإداري والتخطيط الاستراتيجي، كان الملك فيصل يرى أن التعليم هو المفتاح لبناء الدولة الحديثة، لهذا توسع في إنشاء المدارس في المدن والقرى، بحيث ارتفع عددها من 500 مدرسة (1964) إلى أكثر من 3.000 مدرسة (1975)، وزاد عدد الطلاب من نحو 100 ألف إلى أكثر من 800 ألف طالب خلال عقد واحد، ودعم تعليم البنات بقوة، حيث تأسست الرئاسة العامة لتعليم البنات عام 1960، وبحلول 1975 كان هناك أكثر من 500 مدرسة للبنات تضم عشرات الآلاف من الطالبات. البعثات الخارجية: في عهدي الملك سعود والملك فيصل، توسعت سياسة الابتعاث، بحلول أوائل السبعينيات، تجاوز عدد المبتعثين السعوديين إلى الخارج 5.000 طالب، معظمهم إلى مصر، لبنان، الولاياتالمتحدة، وبريطانيا، هؤلاء المبتعثون عادوا ليشكلوا نواة الكفاءات السعودية في الطب والهندسة والإدارة. يمكن القول إن هذه المرحلة كانت بمثابة «سنوات الحلم»؛ سنوات زرع الثقة في نفوس السعوديين بأن التعليم هو جواز السفر إلى المستقبل، كان المشهد أشبه بواحةٍ تتفتح في صحراء، فكل مدرسة جديدة كانت بمثابة بئر ماء يروي العقول العطشى. الطفرة النفطية والتعليم: مع الطفرة النفطية التي شهدتها المملكة في السبعينيات، توفرت موارد مالية هائلة استُثمرت في البنية التحتية، وكان للتعليم النصيب الأوفر منها. الملك فهد – رحمه الله – الذي حمل لقب «ملك التعليم» لسنوات طويلة، اعتبر أن الاستثمار في الإنسان هو الطريق الأضمن لبناء الوطن. خطط التنمية: في إطار الخطط الخمسية للتنمية التي بدأت عام 1970، خُصصت نسب كبيرة من الميزانيات لقطاع التعليم، خلال الخطة الثانية (1975–1980)، ارتفعت ميزانية التعليم بنسبة تزيد على 300%، وُضعت أهداف واضحة: بناء المدارس في جميع القرى، فتح الجامعات في مختلف المناطق، وإنشاء معاهد للتعليم الفني والتقني. التعليم العام: قفز عدد المدارس من 3,000 مدرسة (1975) إلى أكثر من 15.000 مدرسة (1990)، بحلول عام 2000، تجاوز عدد المدارس 25.000 مدرسة موزعة في أنحاء المملكة، بلغ عدد الطلاب في نهاية التسعينيات أكثر من 4 ملايين طالب وطالبة. التعليم الجامعي: توسعت الجامعات من جامعتين فقط عام 1975 إلى أكثر من 8 جامعات بحلول 2005. بحلول عام 2005، كان في المملكة أكثر من 600 ألف طالب جامعي، تأسست مؤسسات بحثية متخصصة مثل مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية. تعليم البنات: شهدت هذه الفترة نقلة نوعية في تعليم البنات، حيث انتشرت المدارس بشكل واسع حتى وصلت إلى القرى والهجر، بحلول التسعينيات، تجاوز عدد الطالبات 2 مليون طالبة، أي ما يقارب نصف عدد الطلاب في المملكة، أُنشئت كليات متخصصة للبنات، قبل دمجها لاحقًا في الجامعات الكبرى. التعليم الفني والتقني: أدركت الدولة أهمية الكوادر الفنية والتقنية، فأنشأت المؤسسة العامة للتعليم الفني والتدريب المهني (التي تحولت لاحقًا إلى المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني)، بحلول عام 2000، كان هناك أكثر من 80 كلية ومعهدًا تقنيًا تستوعب عشرات الآلاف من الطلاب. منذ منتصف الخمسينيات وحتى مطلع الألفية، انتقل التعليم السعودي من بدايات متواضعة إلى مؤسسة عملاقة تضم ملايين الطلاب وآلاف المدارس والجامعات. هذه المرحلة كانت بمثابة الجسر الذي نقل المملكة من مجتمع زراعي بدوي في معظمه إلى مجتمع متعلم مؤهل لمرحلة التحديث والتقنية. التعليم في عهد الملك عبد الله (2005–2015) التعليم كقضية نهضة: جاء عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز ليشهد نقلة كبرى في التعليم، إذ أدرك الملك أن التحولات العالمية تتسارع، وأن المملكة لا يمكن أن تواكبها إلا بمشروع تعليمي طموح. لذلك أطلق مشروعات إصلاحية غير مسبوقة، أبرزها مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم العام وبرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي. مشروع الملك عبدالله لتطوير التعليم العام (تطوير): أُطلق عام 2007 بميزانية بلغت أكثر من 9 مليارات ريال سعودي، هدف إلى إعادة صياغة العملية التعليمية من الجذور: تطوير المناهج، تدريب المعلمين، تحديث المباني المدرسية، وإدخال التقنية إلى الفصول، شمل تدريب أكثر من 400 ألف معلم ومعلمة على استراتيجيات التدريس الحديثة، تزويد آلاف المدارس بوسائل التقنية الحديثة مثل السبورات الذكية والمعامل الإلكترونية. برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي: أُطلق عام 2005 واستمر حتى 2015، وكان من أضخم برامج الابتعاث في العالم، ابتعث أكثر من 200 ألف طالب وطالبة إلى أكثر من 30 دولة، أبرزها: الولاياتالمتحدة، بريطانيا، كندا، أستراليا، واليابان، غطى التخصصات الحيوية مثل: الطب، الهندسة، تقنية المعلومات، العلوم الطبيعية، والقانون، بحلول 2015، عاد آلاف المبتعثين ليشكلوا ركيزة أساسية في الجامعات والمستشفيات والشركات الوطنية. توسع الجامعات: ارتفع عدد الجامعات السعودية من نحو 8 جامعات في عام 2005 إلى أكثر من 25 جامعة حكومية بحلول 2015، أُنشئت جامعات نوعية مثل: جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية (كاوست) عام 2009، لتكون منارة بحثية عالمية، بحلول 2015، بلغ عدد طلاب الجامعات السعودية أكثر من 1.5 مليون طالب وطالبة. التعليم الأهلي: شجع الملك عبد الله الاستثمار في التعليم الأهلي، فارتفع عدد الجامعات والكليات الأهلية من أقل من 10 إلى أكثر من 30، ارتفع عدد المدارس الأهلية بشكل ملحوظ لتستوعب مئات الآلاف من الطلاب. كان التعليم في عهد الملك عبدالله أشبه بوردةٍ تُفتح في صحراء قاحلة، ألوانها زاهية وعطرها وافر. فجأة أصبح الطالب السعودي يجلس في قاعات أعرق الجامعات العالمية، يحمل معه طموح وطن بأكمله. كانت تلك السنوات سنوات «الانفتاح المعرفي»، حيث شعر السعوديون أن التعليم صار جسرًا يعبر بهم إلى العالم. التعليم في عهد الملك سلمان ورؤية 2030 (2015–2025) التعليم ورؤية 2030: مع تولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم عام 2015، وإطلاق رؤية المملكة 2030 بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان عام 2016، دخل التعليم السعودي مرحلة جديدة كليًا. لم يعد الهدف هو التوسع الكمي، بل التحول النوعي، أي بناء نظام تعليمي حديث يرتكز على الجودة، والابتكار، والتقنية، ومن ضمن الإصلاحات الشاملة: تطوير المناهج: إدخال مناهج جديدة في العلوم والرياضيات، واعتماد اللغة الإنجليزية من المراحل المبكرة. دمج التقنية: اعتماد منصات التعليم الإلكتروني مثل «مدرستي» و«عين»، والتي أثبتت فعاليتها خصوصًا خلال جائحة كورونا. كفاءة الإنفاق: إعادة هيكلة التعليم الجامعي والمدرسي لزيادة كفاءة الموارد. التعليم في عصر التحول الرقمي: خلال جائحة كورونا (2020–2021)، تحولت المملكة بسرعة إلى التعليم الإلكتروني، منصة «مدرستي» استوعبت أكثر من 6 ملايين طالب وطالبة يوميًا، لتصبح نموذجًا عالميًا، بحلول 2022، تم اعتماد التعليم المدمج (حضوري + إلكتروني) كأحد الأنماط الأساسية في العملية التعليمية. الجامعات السعودية في التصنيفات العالمية • ارتفعت الجامعات السعودية في التصنيفات العالمية. • بحلول 2024، دخلت أكثر من 15 جامعة سعودية في تصنيفات QS وTimes للتعليم العالي. • جامعة الملك عبد العزيز وجامعة الملك سعود ضمن أفضل 200 جامعة عالميًا. التركيز على البحث والابتكار • تأسيس هيئات ومراكز بحثية مرتبطة بالذكاء الاصطناعي، أبرزها سدايا (الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي). • استثمارات ضخمة في الأبحاث التطبيقية، حيث خصصت المملكة مليارات الريالات لدعم المشاريع البحثية. • جامعة كاوست أصبحت من أهم 50 جامعة بحثية ناشئة في العالم. في عهد الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أصبح التعليم السعودي سفينةً حديثة، شراعها الذكاء الاصطناعي، وبوصلتها الإبداع، لم يعد الهدف أن نتعلم فحسب، بل أن نصنع المعرفة ونصدّرها، إذا كانت الأجيال السابقة حلمت بالجامعة والوظيفة، فإن جيل رؤية 2030 يحلم بإنشاء شركات ناشئة، ومراكز ابتكار، ومشاريع فضائية. من البداوة إلى الاستقرار: في مطلع القرن العشرين، كانت الغالبية العظمى من سكان الجزيرة العربية يعيشون حياة بدوية، متنقلين وراء الماء والكلأ. كانت الخيمة هي المدرسة، والرواية الشفوية هي المنهج، والشاعر هو المعلم الأول. ومع توحيد المملكة على يد الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – بدأت رحلة توطين البادية، ليس فقط من الناحية السكانية، بل من الناحية الفكرية والتعليمية. فقد كان توطين البادية يعني الانتقال من حياة الرحيل إلى حياة الاستقرار، من الاعتماد على الغريزة والتجربة إلى بناء المعرفة المنظمة، وكل مدرسة جديدة في قرية أو هجرة كانت بمثابة إعلان ميلاد مجتمع جديد، يستبدل حياة التنقل بحياة العلم. من التعليم التقليدي إلى الجامعات العالمية مع مرور العقود، تسارعت الخطوات، من الكتاتيب في ثلاثينيات القرن العشرين إلى آلاف المدارس بحلول التسعينيات، ومن جامعة واحدة عام 1957 إلى أكثر من 70 جامعة وكلية حكومية وأهلية بحلول 2025، ومن مئات الطلاب في عهد التأسيس إلى أكثر من 6 ملايين طالب وطالبة اليوم. الأرقام تتحدث ببلاغة: • نسبة الأمية انخفضت من أكثر من 90% في الثلاثينيات إلى أقل من3% بحلول 2020. • عدد الأبحاث العلمية المنشورة ارتفع من بضع مئات في الثمانينيات إلى أكثر من 30 ألف بحث علمي سنويًا بحلول 2023. الذكاء الاصطناعي: التوطين الجديد إذا كان توطين البادية هو مشروع القرن العشرين، فإن توطين الذكاء الاصطناعي هو مشروع القرن الحادي والعشرين، المملكة لم تكتفِ بأن تكون مستهلكًا للتقنية، بل وضعت استراتيجيات واضحة لتكون منتجًا وفاعلًا عالميًا: • الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا): تأسست عام 2019، لتقود التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي. • الاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي (2020): تستهدف أن تكون المملكة من بين أوائل 15 دولة عالميًا في هذا المجال بحلول 2030. • مراكز الأبحاث: • جامعة كاوست: تحتل مكانة مرموقة عالميًا في بحوث الذكاء الاصطناعي والروبوتات. • جامعة الملك سعود وجامعة الملك عبد الله: تحتضنان مراكز بحثية متقدمة في علوم البيانات. • المؤتمرات العالمية: مثل القمة العالمية للذكاء الاصطناعي التي تستضيفها الرياض سنويًا، بحضور خبراء عالميين. التعليم السعودي في عصر الذكاء الاصطناعي: إدخال تقنيات الذكاء الاصطناعي في المناهج، مثل البرمجة، إنترنت الأشياء، والروبوتات التعليمية، وإطلاق مبادرات «مدارس المستقبل» التي تعتمد على التعليم المدمج (الوجاهي + الافتراضي)، وتم تدريب أكثر من 100 ألف معلم ومعلمة على استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في التعليم خلال السنوات الأخيرة. كما غيّر توطين البادية شكل المجتمع السعودي، فإن توطين الذكاء الاصطناعي يغيّر اليوم طريقة تفكيره، البادية أعطت السعوديين قيم الكرم والشجاعة والصبر، والذكاء الاصطناعي يمنحهم أدوات التخطيط، الابتكار، والإبداع، وكأن المملكة تعيش رحلة مزدوجة: من الرمل إلى الرقمنة، ومن القصيدة إلى الخوارزمية. أرقام وإحصاءات حديثة 2025 منذ توحيد المملكة عام 1932 وحتى اليوم، خطت السعودية رحلة ملحمية عنوانها العلم والتعليم. بدأت الحكاية بخيمة في صحراء، حيث كان الطفل يتعلم الحروف على لوح خشبي، وانتهت اليوم بفصول ذكية ومعامل افتراضية، حيث يتعلم الطالب البرمجة والذكاء الاصطناعي. لقد كان التعليم هو القاطرة التي حملت الوطن من مرحلة التأسيس إلى مرحلة الازدهار، كل جيل جاء وأضاف لبنة جديدة: • جيل الملك عبد العزيز وضع البذور. • جيل الملك فيصل والملك فهد زرع الحقول. • جيل الملك عبد الله حصد الثمار وفتح الأبواب للعالم. • جيل الملك سلمان وولي العهد الأمير محمد بن سلمان يقود اليوم ثورة معرفية نحو المستقبل. إن شعار «من توطين البادية إلى توطين الذكاء الاصطناعي» ليس مجرد عبارة بل هو وصف لمسيرة وطن: من البساطة إلى التعقيد، من الأمية إلى الريادة، من المحلية إلى العالمية، واليوم، في اليوم الوطني السعودي، لا نحتفل فقط بماضينا العريق، بل بمستقبلنا المشرق الذي يُكتب بالعلم، وتُزين صفحاته بالابتكار والإبداع. لقد كان الشعراء يقولون قديمًا: «العلم نور»، واليوم نستطيع أن نقول بثقة: العلم في السعودية ليس نورًا فحسب، بل هو شمس تشرق على الأوطان، تصنع حضارة وتبني إنسانًا.