تداولت المنتديات بالمواقع الإلكترونية مؤخرا روايتين حول واقعة واحدة، ولكن بملامح مختلفة؛ اختزلتا في طياتهما واقع الصراع بين التيارين (المتشدد) و(الليبرالي) بالمملكة على الساحة الإعلامية؛ من حيث الرؤية والمآرب والأهداف وأساليب التعاطي مع المستجدات بحياتنا اليومية. فصيغت الرواية الأولى في قالب ضيق يدعوك للاختناق؛ وأبطالها مجموعة من الشبان "الأُسُود" الذين قادتهم غيرتهم على دينهم إلى معرض التعليم العالي؛ بعد ماوردت إليهم أنباء الانحلال والانحطاط الأخلاقي هناك؛ وهذا ما لا يمكن السكوت عنه؛ فنساء متبرجات متغنجات منهن من "كشفن عن أجزاء من أجسادهن" يتجولن بين ردهات المعرض في "اختلاط سافر" بين الجنسين و"الضحكات في كل زاوية من زواياه".. وأصوات الموسيقى تصدح في جنباته أثناء وقت الصلاة.."ولدفع النقمة التي حلت بالمجتمع" شمّر هؤلاء "الشبان المحتسبون" عن سواعدهم وقاموا بمناصحة المخالفين "باللين والموعظة الحسنة" فاصطدموا بإدارة المعرض فكان الحبس والمهانة مصيرا لهم بنهاية المطاف. وأما الرواية الثانية فكانت في قالب واسع يجرك إلى الضياع والتيه؛ وكان بطلها قد تلقّى الرواية السابقة فقاده فضوله للتحقق والبحث عن اليقين؛ فلم يجد هناك إلا العلم والمعرفة والفضيلة؛ فكانت الأمور على خير ما يرام وفي بيئة مثالية لا تشوبها شائبة، حيث لا وجود هناك إلا لأبناء وبنات الوطن الحريصين على مستقبلهم ورفعة أمتهم، فلا مجال للغزل والمعاكسات؛ فرجال الأمن والمنظمون يؤدون عملهم على أكمل وجه؛ في حين لو كانت الهيئة موجودة "لكان الفشل مصير هذا الحدث العلمي العالمي!" .. وخُتمت الرواية بأنه عند تحقيق –الباحث عن اليقين- في قضية "الشبان" –السابق ذكرهم- خلص إلى أنهم لم يكونوا سوى "مراهقين متشددين ومخربين!". قد تكون إحدى الروايتين تمثلان واقع ما حصل؛ وكذلك واقع معرض التعليم العالي بصفة عامة، ولكن من خلال ما شاهدته خلال زيارتي لفعاليات اليوم الأول من المعرض، ووفقا لما تم نقله لي عبر عدد من زواره، فإن هناك مبالغة صارخة كانت نتاجا للنظر إلى المعرض وما حصل فيه بعين واحدة تقودها توجهاتها وميولها إلى "الانتباه الانتقائي" وبالتالي رسم الواقعة بما يتوافق معها. فبخصوص أصوات المعازف والأغاني فلم يكن لها أي وجود، بل على العكس من ذلك تماما، فعندما كنت حيث تتواجد أجنحة الجامعات السعودية إنساب إلى مسامعي آيات من الذكر الحكيم؛ حيث كان صوت القارئ يجمّل جناح جامعة أم القرى، وبشأن الاختلاط وما قد يحصل بين بني الجنسين فكان يحصل خلاله ما قد يحصل في أي مكان عام يعج بالشباب والفتيات، فهناك الملتزمون ويقابلهم المنتهزون. ولن أخوض في مزيد من التفاصيل للمقارنات بين الروايتين، فمنكم من زار المعرض، ومنكم من سمع عنه، ولكم أن تقارنوا بين الروايتين كما يطيب لكم. لا شك أن مجتمعنا يعيش تحت وطأة تيارين متضادين يكاد أن يئن تحتهما، فما أن تأتي قضية تستجد حتى يأتي دعاة التيارين إلى نقلها ووصفها والحكم عليها من خلال وجهة نظر أحادية، يدعي فيها كلاهما الصواب، وبطريقة لا تخلو من إقصاء الطرف المقابل. وقد جرت العادة في أن كل من أراد بث توجهاته وأفكاره لإقناع الناس بها؛ نجده يلجأ للإعلام وبحوزته ألوان وصنوف من الأساليب لتحقيق غايته المتمثلة في التأثير على الرأي العام، ولهذا فإن هناك العديد من دعاة التيارين الذين سخروا أقلامهم وإطلالاتهم ليبثوا دعواتهم وآراءهم عبر الصحف والقنوات الفضائية والإنترنت في سبيل الإقناع للميل إليهم والإعراض عن قبيلهم، ولا تستغرب عندما تجد الاستماتة من قبل أحدهم في ذوده عن قضيته. كما أنه لا يخفى علينا أن دعاة التيارين دائما ما يتخذون من "الحرية" ذريعة لهم ينطلقون منها لإلقاء حججهم وردودهم واقصاءاتهم جزافا لمخالفي آرائهم وميولهم، وبما أن غالب تلك المشاهد كانت على الساحة الإعلامية –كما ذُكر آنفا-، فلننظر إلى مصطلح (الحرية الإعلامية) بعين باحثة، فعندما نعود إلى عصر النهضة الأوروبية الذي كان نتاجا لتحدي الأفكار والمبادئ السلطوية التي صادرت حرية التعبير في القرون المظلمة بأوروبا، ظهرت نظرية "الحرية" أو "الليبرالية" كما أطلق عليها الباحثون بمجال الإعلام السياسي في محاولة منهم لوصف العلاقة بين الصحيفة والسلطة، وكانت هذه النظرية تضمن للصحيفة حريتها؛ بحيث إن " للصحيفة حرية النشر، بأي شكل كان، ومن قبل أي شخص، مهما كان اتجاهه الفكري، فذلك حق من الحقوق الطبيعية لجميع البشر، ولا نستطيع أن نقلل من حرية النشر بأي شكل وتحت أي عذر". - وفقا للمفكر الإنجليزي جون ميلتون عام 1664م-. ولم تنتصر الحرية على السلطوية إلا بمنتصف القرن التاسع عشر حيث بدأت ملامح الحرية تظهر بشكل جلي وواضح على الصحف بأمريكا وبريطانيا في العام 1866م، وكان من أبرز معايير تلك النظرية التي حددتها الأفكار الليبرالية أنه لابد من تقديم كل أنواع المعلومات، والأفكار للجمهور، وأن النقد الحر ضرورة، لتحقيق رفاهية وتقدم المجتمع. ولكن ما الذي حدث بعد ذلك؟ في العقد الثاني من القرن العشرين بدأت المراجعات النقدية لنظرية الحرية، وكانت من أبرز الانتقادات التي وجهت لها – وفقا للدكتور محمد جاسم الموسوي أستاذ الإعلام بالأكاديمية العربية في الدنمرك- "أن وسائل الإعلام في ظل تلك النظرية عرضت الأخلاق العامة للخطر، وأصبحت تقتحم خصوصيات الأفراد تحت غطائها، وباتت تبالغ بالأمور السطحية والتافهة من أجل الإثارة وتحقيق الأرباح". وفي عام 1947م أعدت لجنة حرية الصحافة في الولاياتالمتحدة كتابا كان بعنوان "صحافة حرة مسؤولة" انبثقت عنه توصيات تعنى بها المؤسسات الصحفية والصحفيين والحكومة أيضا، مؤكدة على أن من واجب الصحافة تحقيق مصلحة المجتمع؛ وتمخض عن تلك التوصيات مضمون نظرية "المسؤولية الاجتماعية"، ومن مبادئها الأساسية التي حددها الصحفي السويدي (دينيس ماكويل) أن على الصحافة تنفيذ التزامات معينة تجاه المجتمع، وأن تلتزم بالدقة والموضوعية والمهنية في العمل الصحفي، وعليها أن تتجنب ما يمكن أن يؤدي إلى الفوضى الاجتماعية، وأن تدخل الحكومة يكون مبررا لتحقيق المصلحة العامة..إلخ. ومن هنا يمكننا أن نقول بأن "المسؤولية الاجتماعية" ظهرت كرد فعل على "الحرية" التي أدت إلى الفوضى المجتمعية، حيث كان لا بد من وسيلة لتقنين تلك الحرية بهدف حماية المجتمع ورفع مصلحته فوق كل اعتبار، ففي الظروف المثالية داخل إطار النظرية يكون المجتمع بطريقة غير مباشرة هو المتحكم بالمحتوى الإعلامي، فهو يعلم ما له وما عليه، ولديه القدرة على وضع حد لبث الأفكار الرامية إلى تحقيق مصلحة خاصة تعود بالنفع على الكاتب أو المتحدث أو (جماعات المصالح) يدفع ثمنها المتلقي الذي سينتهي به الأمر إلى التشتت ورؤية الواقع بضبابية ليجد نفسه مرميا في غياهب الخوف والقلق. وعودا إلى الظهور الإعلامي سواء عبر الصحف أو الفضائيات لدعاة التحرر أو التشدد؛ فإن التساؤل الذي يطرح نفسه الآن هو حول الدافع الذي يدعو ذلك المستميت في الدفاع عن ميوله وآرائه؛ فهل كل تلك الكتابات والحرص على الظهور عبر الفضائيات كان خالصا لوجه الله تعالى ولم يخالطه مزيج من الأهداف لتحقيق المصالح وحب الذات والبحث عن بريق الشهرة؛ حتى وصل به ذلك إلى مرحلة ضرب فيها مصلحة القارئ والمجتمع عرض الحائط؟. ومضة: من المقترحات والتوصيات التي خرج بها الباحثون في المجالات السياسية والاجتماعية والإعلامية دعت إلى تقريب وجهات النظر بين التيارين المتضادين في المشهد السعودي، ومن هذا المنطلق عقد اللقاء الوطني الثاني للحوار الفكري والذي كان بعنوان "الغلو والاعتدال..رؤية منهجية شاملة" في الفترة من 4-8 ذي القعدة 1424ه الموافق 27-31 ديسمبر 2003م، وكان من توصياته التأكيد على التوازن في الطرح الإعلامي لقضايا الدين والوطن ووضع منهجيه علمية لذلك والبعد عما يثير الفرقة والشبهات ومراعاة التنوع الفكري والمذهبي، وترسيخ مفاهيم الحوار في المجتمع السعودي وتربية الأجيال في المدارس والجامعات على ذلك، لا شك أن تلك حلول مثالية، ولكن هل تم تطبيقها على أرض الواقع؟ أو بشكل أدق؛ هل بالإمكان ذلك؟