في حلقة سابقة كنا قد تناولنا لقاء الرحالة الاوربي جيرالد دو غوري بالملك عبد العزيز في عام 1934م بقصره في الرياض عند ما وصفه بعملاق بحجم جبل، واعجب بصفاته الشخصية حد الانبهار، وهو يلتقيه اول مرة في مجلس الحكم، وقدم وصفا دقيقا لبرنامجيه اليومي والعملي يوم أن قال: ان لبعض الحكام العرب سحرا طاغيا، وها هو ذا سحر بن سعود يبدأ في اسري مبتدئا بوصف حضوره واطلالته وابتسامته الطاغية التي قال عنها لم أر في حياتي (ابتسامة طاغية أكثر من هذه الابتسامة). كانت ابتسامته مليئة بالرجولة، ولهجته مليئة بالثقة، ويتحدث بعربية فصحى يلونها بأقوال بدوية بين حين وآخر. وما ان يبدأ بالحديث حتى يتحول كلامه إلى فيضان لا يوقفه الا الدعوة لصلاة الظهر، وذكر ان قوته تكمن في ذكائه الخارق وهو يتفحص وجوه القادمين ومعرفة شأنهم قبل ان ينطقوا بها. ثم قال ان سحره الشخصي وتفهمه يظل اقوى من أي شيء آخر، لقد كان مثل قالب العسل الذي يجتذب الجميع غير ان داره طافت بالمعجبين والمحبين لدرجة اضطر معها لتحديد مواسم معينة للاستقبال بحيث يكرس الاشهر الباقية لتفقد مملكته وادارة شئونها، من منطلق بسيط قوامه التوازن بين المصاريف وبين دخل الدولة من رسم الحج، والجمارك، مشيرا إلى ان وزير المال إضافة إلى سلطته على الدوائر الحكومية المحدودة التي اضيف إليها مؤخرا (الشئون الخارجية) هو من كان يحرس المال بنفسه ويضع معظم النقد على شكل عملات ذهبية تركية وانكليزية وروبيات هندية. حينها كانت مملكته قد قامت بتركيب جهاز ارسال واستقبال (برقي) طراز ماركوني وهو امر جديد في الجزيرة العربية ومن شأن هذه الاجهزة أن تساعد على ثبات الأمن والاستقرار في مملكته الواسعة في هذا الجزء من اللقاء يستكمل الرحالة غوري وصفه لجوانب اخرى من حياة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه فيقول: في الصيف يأتي الملك من قصره الصيفي في البادية (بوادي حنيفة) حوالي الساعة الثانية والنصف ليلا بالتوقيت العربي أي بعد الغروب، وينصرف إلى اعماله فيوقع الرسائل واحدة بعد الاخرى ثم يعطيها إلى سكرتيره، كما يستقبل الزوار ويصغي إلى عرض لأخبار المقاطعات وأخبار العالم. ولا يصغي إلى الموسيقى اطلاقا، وعند منتصف الليل بالتوقيت العربي يقرأ القرآن الكريم او يصغي إلى قراءته، وبعد ذلك يقرأ اسماء الشهداء وينام حتى الفجر حيث يقوم لتأدية الصلاة، وبعد ذلك يرتاح قليلا، ثم يعمل حتى موعد صلاة الظهيرة، وبعد الظهر يعود إلى القصر الصيفي في وادي حنيفة المملوء بالاشجار. قبل ان نذهب لزيارة الملك عند المغرب، الشيخ يوسف ياسين وأنا، نجلس على الأرض لكي نصغي إلى نشرة الأخبار من الراديو، وغالبا مانستمع إلى اذاعة القاهرة، وبعد ان يستمع إلى الأخبار يسرع الشيخ يوسف إلى الملك لكي ينقلها اليه قبل أن ينساها، وبعد ذلك بقليل يأتي خادمه ومرافق وحامل القنديل لمرافقتي إلى القصر، حيث يدور الحديث حول ( توازن القوى) واستأذنت بالانصراف بعد قليل، لكن الملك طلب مني البقاء وصاح (قهوة) فراحت الكلمة تنتقل من رجل إلى آخر. وتسمى هذه القهوة (قشرة) وهي شاحبة اللون لأن ثمة شكا بأن قهوة البن قد تكون مفترة. ثم انتقلنا إلى موضوع الحبشة والحرب الدائرة هناك، ورأى الملك أن السلاح الذي يستخدمه الايطاليون سوف يمكنهم من ربح الحرب، ويرى أن الحرب قد تتطور إلى حرب كبرى، وهكذا يتنقل الحديث إلى مواضيع كثيرة مثيرة للاهتمام، وبعد الاستئذان من الملك جاء الي الشيخ يوسف بهدية الملك وهي عباءة من وبر الابل مطرزة بخيوط الذهب وكوفية وعقال وخنجر ذهبي، ومن هنا سأتوجه إلى الكويت مع فرقتي. المصدر: قافلة الحبر