في منتدى التنمية الثلاثين الذي عقد في العاصمة البحرينية (يومي 12 و13 فبراير 2009) أثير موضوع الطفرة النفطية الثالثة وتراجع هذه الطفرة بعد تفاقم الأزمة المالية الحالية وقد قدمت ورقة في هذا اللقاء حول تأثير الطفرة على المدينة في الخليج العربي وكيف ستتعامل هذه المدن مع الأزمة المالية وقد ركزت على مدينة دبي كمثال، على أن ما حدث من ردة فعل من الزملاء في الامارات كانت مفاجأة بالنسبة لي فقد هب الجميع للدفاع عن دبي (وقد كنت سعيدا جدا بهذه الدفاع لأن دبي تحتاج إلى أبنائها المخلصين الذين يدينون لها بالحب والولاء) فقد كان انتقادهم للورقة أنها ركزت على السلبيات ولم تثر أيا من الايجابيات ولهم الحق في ذلك. على أنني يجب أن أؤكد هنا أنني أشعر بأنني أنتمي لدبي وكل مدينة خليجية بقدر انتمائي للهفوف (مسقط رأسي) والرياض، وأن انتقادي لأي مدينة خليجية هو ناتج عن دوافع يختلط فيها الحب والخوف من المستقبل، لذلك فلنبدأ من هنا من هذه الدوافع التي تجعلني أثير قضايا ربما تظهر لمن يسمعها أنها محاولة لاصطياد الأخطاء مع أنني لا أريد إلا الإصلاح ما استطعت. ولعلي هنا أتحدث عن معنى "الشورى المدينية" التي شعرت بأهميتها وقيمتها في هذا اللقاء إذ أن تداول قضايا المدينة ومستقبلها في لقاءات "شورية" يتم فيها تبادل الآراء سوف يقربنا من مفهوم "ديموقراطية المدينة" ولعلي هنا كذلك أنتقد ما يحدث بشكل عام في المدينة الخليجية المعاصرة التي يبدو أنها لاتريد أن تكون "ديموقراطية" وهذا يعيدني إلى تعليق الدكتورة رفيعة غباش (رئيس جامعة الخليج العربي في البحرين) وهي مواطنة "دبيانية" انتقدت ورقتي بشدة وقالت انها ضد "ديموقراطية المدينة" لأنها ستجعلنا نخسر دبي التي يغلب عليها السكان الوافدون. وأنا أقول للدكتورة انه لايعقل أن نخلق المشكلة ونقف عاجزين أمامها بل ونرفض ما كان يجب علينا فعله وتحقيقه. كما أنني يجب أن أختلف مع الدكتور عبدالخالق عبدالله (أستاذ العلوم السياسية في جامعة الإمارات) بأن دبي مشروع اقتصادي وليست مشروعا تجاريا، فقد كان من الممكن أن نتفق على هذا لو أن دبي اكتفت بما فعلته من تطوير لميناء جبل علي وتطوير المطار وقبل أن تتحول إلى مهرجان للتسوق وتصبح المدينة برمتها مشروعا عقاريا فما حدث خلال العشر سنوات الأخيرة يعتبر خارج مفهوم "المشروع الاقتصادي"، ومع ذلك حتى لو أن دبي فعلا تمثل مشروعا اقتصاديا فما اعتقده هو أن هذا المشروع أتى على حساب المدينة والحياة فيها. وكما ذكرت فإن الهدف ليس انتقاد مدينة دبي التي تعاني الآن من مشاكل كبيرة نتيجة للأزمة المالية الحالية فأنا على يقين بأنها ستتجاوز هذه الأزمة لكن يجب أن نتعلم من الدروس التي تمر علينا فمدن المنطقة صارت تقلد دبي وتريد أن تمشي على خطاها دون مبررات واضحة. وهذا في حد ذاته يمثل إشكالية قد تجر المنطقة برمتها إلى مشاكل مستقبلية كبيرة نحن في غنى عنها. فسياسة إستيراد السكان (التي يشجعها نموذج دبي) تطرح أسئلة كبيرة على مستوى مستقبل إدارة هذه المدن فماذا يمكن أن يحدث بعد 50 عاما على سبيل المثال، هل سيعتبر السكان المستوردون محليين ويعطون كل حقوق المواطنة بما في ذلك الحقوق السياسية؟ هذا السؤال المؤرق يجعل من النمو الحضري غير المفكر فيه في مدن المنطقة مصدر خطر سياسي واجتماعي لا يمكن التكهن بمعالمه في عالم يتغير بشدة. الأمثلة التي يمكن إجراء مقارنة معها هنا هي هونج كونج وسنغافورة، ففي الحالة الأولى رجعت (هونج كونج) إلى الصين لأنها تمثل خاصرتها الاقتصادية، كما أن الصين تملك الغطاء السكاني الذي أبقى (هونج كونج) ضمن الحظيرة الصينية، بينما تحولت (سنغافورا) إلى جزيرة صينية بعدما كان الملاويون والعرب يهيمنون عليها نتيجة للتغير الكبير في تركيبتها السكانية. ما يمكن أن يحدث في مدن الخليج هو احتمالية هيمنة السكان المهاجرين على مستقبلها السياسي وهنا يجب أن ندق ناقوس الخطر بقوة. فلم تكتف دبي بالتأثير على محيطها العمراني (الشارقة وعجمان وأبوظبي) بل امتدت إلى مدن خليجية ظلت ساكنة لفترة طويلة مثل الدوحة ومدن أخرى كانت تحاول أن تنمو لكنها تفتقر للموارد المالية مثل المنامة. والحقيقة أن الدوحة والمنامة يمثلان مدينتين خليجيتين وجدتا في دبي نموذجا يحتذى. فلقد تحولت هاتان المدينتان خلال العقد الأخير إلى مشروعين تجاريين خصوصا مدينة الدوحة التي تمددت بشكل مخيف وظهرت فيها مشاريع عملاقة ومدن صغيرة داخلها الدوحة الكبيرة وتم استقطاب سكان جدد وجامعات عالمية ومتخصصين في كافة المجالات لكن في نهاية الأمر تظل الدوحة البسيطة الساكنة حتى نهاية القرن العشرين هي المدينة التي تبقى في الذاكرة بينما صارت المدينةالجديدة بذاكرة متحولة ابتلعت المدينة القديمة بكل سكونها وهدوئها. أما المنامة فتظل أهدأ من الدوحة ومن دبي بكل تأكيد لكن تظهر ضاحية السيف وامتدادها إلى وسط المدينة منطقة سريعة النمو. ربما تكون المنامة أقل جذبا للسكان غير المواطنين لأنها تعتمد بشكل كبير على وجود جارتها السعودية وارتباطها بها عن طريق جسر الملك فهد. لذلك فإننا نعتقد أن النمو في المنامة أقل تأثيرا على قيم المدينة وتأثيره السكاني محدود. تحتاج مدينة دبي أن نعطيها بعض العذر كونها مدينة تريد أن تكون منافسة بدون موارد نفطية في منطقة تعتمد على مورد النفط وبالتالي فإن هذه الإمارة درست ظروف المنطقة وحددت ما يمكن أن تقوم به المناطق المجاورة وما لا يمكنها أن تفعله وركزت على الجوانب التي يمكن أن تكون دبي فيها البديل وبالتالي أصبحت نقطة وصل بين اسيا وأفريقيا وأوروبا وخدمت دولا عليها ضغوط دولية وبالتالي تحولت دبي إلى مركز للخدمات في المنطقة وهذا أغراها كثيرا للتوسع في النشاطات المدينية الأخرى وخصوصا التوسع العقاري المبني على جلب السكان من خارج المنطقة لتعزيز دورها الخدماتي والاقتصادي ولتكون ملتقى كل سكان العالم. هذا الحلم كان مبنيا على أسس اقتصادية واضحة ومرتكز على دراسة عميقة لظروف المنطقة لكن نتج عنه مشاكل أخرى على مستوى نوعية الحياة في المدينة وعلى مستوى الهوية الثقافية والاجتماعية وعلى مستوى الوضع السياسي المستقبلي نتيجة لخلل التركيبة السكانية. ما أود أن أؤكد عليه هنا أننا بحاجة أن نرى الجانب الآخر من التطور العمراني المادي، لأن ما نراه بأعيننا ليس بالضرورة هو ما يحدث فعلا في واقع المدينة ولعل هذا يقتضي بالضرورة أن يكون هناك "شورى مدينية" تبحث الواقع الذي عادة لا نراه بشكل مباشر.