تحدثت في المقال السابق عن الدولة والمدينة وكيف أن تدخل مؤسسات الدولة في العالم العربي في تشكيل المدينة غيب المعنى الانساني للمدينة بشكل ملفت للنظر على أن الأمر أكثر تعقيدا فالتحول والتبدل سنة كونية وتبدل الادوار مسألة متوقعة، فإذا كانت الدولة صنعت المدينة العربية الحديثة في غمار التحرر من الاستعمار بين الاربعينيات والستينيات من القرن الماضي، واستمر في ممارسة هذا الدور حتى نهاية القرن تقريبا إلا أن إطلاق العالم الجديد في بداية التسعينيات بدل كثيرا من المفاهيم وأدخل لاعبين جددا جعل من المدينة مسرحا للتنافس على اقتناص الفرص وتراجع دور الدولة إلا في بعض المدن التي لم تفطم بعد وظهرت مؤسسات رأسمالية كبيرة صارت تقود المدينة حتى بوجود مؤسسات الدولة، خصوصا إذا ما حاولنا أن نربط هذه المؤسسات بما يسمى "الاقتصاد السياسي" فتلك المؤسسات الرأسمالية غالبا ما تكون ذات نفوذ سياسي كبير يجعلها قادرة على توجيه المدينة ومن يسكنها لخدمة مصالحها الخاصة. علاقة المدينة بمجموعات المصالح التي تحركها حسب واجهتها تذكرني بالمثل الشعبي (كل يحرك النار لقريصه) الأمر الذي يعني "تمزق" المدينة كون الشد والجذب الذي تمارسه هذه المجموعات يحدث خللا كبيرا في النسيج العمراني للمدينة ويدفعها إلى "التناقض القسري" غير المنظور عادة، فيبدو نمو المدينة وكأنه نمو طبيعي بينما هو نمو من أجل منفعة مؤسسات المال الكبيرة التي تتعامل مع المدينة ككل كمشروع استثماري تتنافس عليه مع المؤسسات الأخرى. في هذه المعادلة الخاسر الأكبر هو ساكن المدينة الذي يمثل عنصرا من عناصر المشروع الاستثماري الكبير بالنسبة لهذه المؤسسات. البعد الانساني في هذه الحالة يتراجع بشدة خصوصا وأن مؤسسات الدولة (رغم تحولاتها الكبير نحو أنسنة المدينة والبحث عن صيغ غير رمزية وغير سياسية للفضاء الحضري) ضعفت بشدة أمام المؤسسات الرأسمالية الجديدة حتى أنها صارت تجاري هذه المؤسسات دون أن تملك مقدرة فعلية للوقوف أمامها وترشيد تأثيرها الاستثماري داخل المدينة. لقد أصبح التعبير المناسب هو "حضرت مؤسسات المال وغابت المدينة". والحقيقة أننا هنا نقارن بين عصرين وبين شكلين للمدينة. في البداية كانت المدينة العربية رهينة دولة ما بعد الاستعمار التي كانت متحفزة لإنشاء مدن حديثة لكن الحداثة هي حداثة الدولة أو كما يراها رجال الدولة ومؤسساتها لا كما يراها الناس لذلك ظهر المواطن العربي مهمشا للغاية لا يعرف من مدينته إلا شوارعها التي يسير فيها مجبرا من أجل طلب رزقه. والآن ورثت مؤسسات رأس المال والمؤسسات العقارية على وجه الخصوص هذا الدور وصارت تسوق المدينة بشكل "سلعي" أي أنها حولت المدينة برمتها إلى مجرد سلعة تباع وتشترى فخسرت المدينة بذلك أهم عناصرها الحيوية وهو "إنسانيتها" وتداخلها العاطفي مع من يسكنها. ما تعيشه المدينة العربية هذه الأيام هو طغيان عارم لمادية المدينة على حساب إنسانيتها وهو ما ينذر بتراجع كل قيم الحياة في المدن العربية التي لم تستطع أصلا المحافظة على تاريخها وذاكرتها. وأنا هنا لا أريد أن أقول ان المدينة العربية تعاني من أزمة "هوية" فهذه أبسط أزمة تعيشها في الوقت الراهن. على مستوى منطقة الخليج، ما يثير القلق حقا هو أن ما يحدث للمدينة الخليجية يفرغها من سكانها الحقيقيين ويبدو أن المشكلة اجتماعية بحتة ومرتبطة باضمحلال الطبقة الوسطى في المدينة الخليجية وهو ما ينتقده السياسي الإماراتي الدكتور عبدالخالق عبدالله الذي يرى أن دول الخليج العربي استطاعت أن تبني الطبقة الوسطى خلال الأربعة عقود الماضية وصنعت مجتمعا حقيقيا لكنه يرى أن هذه الطبقة مهددة اليوم وتعاني من صعوبات عدة، ويبدو أن هذه المشكلة تنعكس على المدينة الخليجية بعمق كون الطبقة "المتآكلة" التي شكلت المدينة الخليجية حتى مطلع الألفية الثالثة تحولت إلى مجرد طبقة هامشية "مستهلكة للمدينة". قضية تراجع الطبقة الوسطى هي جزء من "ثقافة العقار" الطاغية في المدينة الخليجية فالمسألة أصبحت مسألة توفير فضاء للسكن يتناسب مع هذا التراجع الحاد في هذه الطبقة، ويمكن أن نطلق على المرحلة الحالية مرحلة "من الفيلا إلى الشقة السكنية" وهي مرحلة تعيشها الأسرة الخليجية حاليا وتعاني منها بشدة فهي لم تتعود بعد أن تعيش هذه الحياة "الضيقة" فقد انتقلت الأسرة الخليجية من المسكن التقليدي إلى الفيلا وعندما أجبرت الآن للحياة في شقق سكنية أصبح الأمر خارج الفضاء الاجتماعي الذي يمكن تقبله. إحدى القضايا التي تعاني منها المدينة الخليجية هي أن الجيل الشاب الذي سيشكل الفضاء السكني المستقبلي في المدينة تربى في مساكن كبيرة وواسعة، وهو أمر سيعقد الانتقال من الفيلا إلى الشقة السكنية ورغم أن مؤسسات رأس المال تعمل بقوة على تأكيد الثقافة السكنية الجديدة والتراجع الحاد في شكل الطبقة الوسطى في المجتمع الخليجي نتيجة للظروف الاقتصادية الحالية قد يحيل الأسرة إلى خيارات ضيقة ومحدودة لا تملك إلا أن تقبل بها، إلا أن هذه الخيارات تبدو مرفوضة من قبل قطاع واسع في المجتمع الخليجي إلى الدرجة التي جعل المدينة تفرغ من محتواها الثقافي/ الاجتماعي لأن السكان لم يعودوا قادرين على السكن في مركز المدينة بل على أطرافها، يمكن مشاهدة هذه الظاهرة في مدينة أبوظبيودبي فهاتان المدينتان فرغتا من سكانهما وتحولتا إلى مدينتين لأبراج مكتبية وسكنية دون سكان محليين بينما ابتعد السكان المحليون إلى أطراف تلك المدن. هذه الظاهرة تنتشر بقوة في المدينة الخليجية حتى أنها صارت تهدد هوية المدينة اجتماعيا وثقافيا. ما يفزعني حقيقة هو كمية المشاريع الاستثمارية التي تضخ يوميا تقريبا في المدن الخليجية حتى أن مدنا هادئة جدا مثل مسقط بدأت تتمطط وتصحو وكأنها شعرت أنها كانت في سبات عميق. بالنسبة لي لا أتمنى أن تصحو مسقط كي تتحول إلى دبي أو الدوحة فمازالت هذه المدينة تمثل حالة خاصة، مازالت تعكس "آخر المدن الانسانية" التي لم يلوثها رأس المال لكن يبدو أن هذا الهدوء لا يعجب كثيرا من الناس فنحن في سباق محموم نحو "حرق" كل سفن المدينة فإما رسملة المدينة وإما الغرق.