هذا الوقت هو زمن الوفرة في الخيارات، والسلع، وحتى في المحتوى الذي يمثل في مجمله شكلاً من أشكال الوعي على مستوى التطبيقات في التواصل الافتراضي، بحيث لم يعد الوصول يمثل تحديًا كما كان، وصار التحدي الحقيقي هو كيفية تعاملنا مع كل ما يصل إلينا. فسهولة الوصول إلى المعلومات لم تعد تحديًا بحد ذاتها، بل أصبح التحدي الأكبر يكمن في قدرتنا على التمييز بين ما يستحق الاهتمام وما يمكن تجاوزه، وكيفية إدارة تركيزنا في خضم تدفق الأفكار المتواصل. والإشكالية لم تعد مقتصرة على الجانب المادي فقط، بل امتد أثرها إلى ما يعرف بالاستهلاك الفكري، فأصبح تبني أفكار الآخرين يفوق القدرة في كثير من الأحيان على تكوين رأي خاص ومستقل ، الأمر الذي ألقى بظلاله على محدودية الأفكار الجديدة، لأن المتلقي قد يشارك كل ما يصل إليه، دون أن يمنح نفسه مساحة للتأمل أو التحليل ، والفرد الذي يكرر هذا النمط يفقد جزءًا من قدرته على الابتكار وصناعة كل ما هو مفيد من الأفكار المتجددة، ويصبح معرضًا لتكرار ما هو سائد دون إضافة قيمة حقيقية. والحل عادة يكون في إعادة النظر في علاقتنا بالمحتوى، وتحويله من مجرد مادة استهلاكية إلى أداة للنمو الفكري، كما أن التوجيه الذاتي وفرز مصادر المحتوى يساعد في عملية الاستهلاك الواعي الذي يعزز من القدرة على الاستفادة قدر الإمكان بدل الاكتفاء بمروره السريع دون أثر، ويضمن أن يتحول ما نتلقاه إلى مادة تفكير حقيقية . وهذا السياق يقودنا إلى مفهوم فلترة الأفكار، والذي يشير بدوره إلى عملية واعية ومنهجية يتم من خلالها إخضاع كل فكرة، أياً كانت، للفحص النقدي قبل تبنيها أو رفضها وإعادة صياغتها إذا تطلب الأمر، وهي ليست سلطة بمعناها الحقيقي على العقل، ولكنها دعوة إلى الإدراك والفهم الذي يسهم في الحماية من الانقياد غير الواعي والتمييز بين ما يضيف فكرة حقيقية وبين ما يتم تبنيه دون أثر أو معنى.