لم يعد المواطن العربي سجين إعلامه الرسمي. لقد أصبح بإمكانه التحرر من رتابة وأحادية ذلك الاعلام عن طريق اقتناء هوائي دش يجعل العالم كله بين يديه. ومن أجل ذلك تطور الاقبال بسبق سريع على شراء هذه الاجهزة "العجيبة" بطريقة أزعجت احياناً سلطات عديد من البلدان العربية. وشكل ذلك أخطاراً على الثقافة والقيم المحلية، لكنه في الآن نفسه مثل تحدياً قوياً للسياسات الاعلامية التقليدية التي لا تزال متبعة هنا وهناك رغم فشلها الذريع وتصادمها مع العصر ومع تطلعات المواطنين العرب. في هذا الاطار ولد ما سمي بپ"الفضائيات العربية". ولا نقصد التلفزات الرسمية التي حجزت لنفسها مكاناً في الأقمار الاصطناعية لتروج نفس البضاعة المحلية، ولكن نعني سلسلة التجارب الخاصة أو المتحررة قليلاً أو كثيراً من ضوابط الأنظمة ووصايتها التي تتعارض أحياناً كثيرة مع حرية المبادرة والعمل الاعلامي الحديث. هذه التجارب التي اكتسب بعضها بسرعة ثقة واهتمام المشاهد العربي، تستوجب من المراقبين والمختصين وعلماء الاجتماع والخبراء في مجال صناعة الرأي العام الوقوف عند هذه الظاهرة وتحليل أبعادها وانعكاساتها. ويندرج هذا المقال ضمن محاولات تسليط قليل من الاضاءة على بعض المساحات التي أخذت تؤثر فيها تلك الفضائيات. يمكن القول ان بعض هذه التجارب قد نجح الى حد ما في اعادة الاعتبار للمادة الاعلامية السياسية. فالاختبار والتحليلات ذات الطابع السياسي والاقتصادي التي عادة ما تقدمها القنوات التلفزية المحلية كاذ ان يهجرها الجمهور العربي إلا ما تعلق منها ببعض الاحداث والقضايا التي تهم معاشه ومصيره وحياته اليومية. ويعود هذا الهجر الى عدة عوامل مثل طولها الممل ورتابة اخراجها وتمحورها حول النشاطات الرسمية الغالبة في أحيان كثيرة من الاهمية والحدثية. كذلك أغراضها المفرط في المحلية، وخاصة طغيان التعميم وعدم الدقة وإخفاء الحقيقة في اسلوبها. وفي المقابل جاءت هذه الفضائيات لتعطي الأولوية لأهمية الحدث قبل الاشخاص وبقطع النظر عن مكان وطبيعة الحدث. لقد كسر ذلك نمطية الصياغة السائدة، وتحرر المقاصد من التسلسل الهرمي الذي تخضع له كل نشرات الاخبار في البلاد العربية، والذي يبدأ من الفوق وينزل تدريجياً الى الأدنى في "الأهمية السياسية والادارية". كذلك تحركت الفضائىات نحو مصادر الغير، مع محاولة التميز في تقديمه وإثرائه بالمقابلات والتعليقات المباشرة. فخفف ذلك من هيمنة وكالات الانباء العالمية المحتكرة للمعلومة وكيفية عرضها وتوجيهها. ومن جهة اخرى نشطت هذه المحطات الحوار السياسي بطرق لم يعهدها المشاهد العربي في معظم قنواته المحلية، مما سمح بإخضاع الاحداث للتحيل والتقويم التعددي، ومكن رجال السياسة والخبراء العرب والاجانب من مساعدة هذا المشاهد على توسيع دائرة فهمه لما يجري حوله وفي العالم. أما الجانب الآخر الذي خطت فيه هذه الفضائيات خطوات تحسب لها في رصيدها، فهو الجد الذي يبذله بعضها لإخراج الفكر العربي والحوار بين المثقفين العرب من داخل أسوار الجامعات والندوات المغلقة أو شبه المتخصصة الى الجدل المفتوح والمباشر احياناً مما وسع جداً في قاعدة الجمهور المتابع، والذي قد يتحمس ويؤيد هذا الطرف أو ذاك. وإذا كان هناك من يعترض على أسلوب المعارك الفكرية بين المثقفين لما يتركه من آثار سلبية على علاقة هؤلاء بعضهم ببعض، وقد يقلل من فرص تعاونهم والتقائهم على أرضيات مشتركة، ففي المقابل مكنت تلك اللقاءات الفكرية والسياسية الجمهور من معرفة الحجم الحقيقي للعديد من الاسماء التي كانت تملأ الساحة بكتاباتها والتي استفاد بعضها من الاحداث الظرفية والمظلات الحزبية. كما استمع الجمهور لأصوات مغمورة وأخرى صاعدة ضمن التجدد الحتمي لأنسجة النخب العربية. والأهم من ذلك ان هذا النوع من البرامج، خاصة اذا أخضع لمزيد المراجعة والتقويم، قد بين انه قادر على تحويل المادة الثقافية والفكرية الى مادة جيدة وممتعة ومتابعة من قبل جمهور واسع ومختلط. كما كشفت هذه المحاولات عن مدى الرغبة المكبوتة لدى الجمهور العربي في التعامل مع حرية الرأي والتعبير، وتعطشه الشديد للاستماع الى آراء وأصوات مختلفة ومتصارعة تتشابك أمامه من دون تدخل الرقيب وتعديلات المونتاج. لقد سئم هذا الجمهور الآحادية والخطاب المتخشب الذي كاد ان يقتل الاحساس النقدي ويصيب العيون بعمى الألوان، ويفقد المشاهدين القدرة على التمييز! الملاحظة الثالثة والأخيرة في هذا السياق هي ان النجاح النسبي الذي حققته هذه الفضائيات جعل الكثير من الانظمة، خاصة تلك التي تعاني عزلة شديدة، تحرص على تبليغ صوتها وتمرير رسائلها من خلال قبول الدعوات وإجراء الحوارات المباشرة أو المسجلة. وهي لم تفعل ذلك إلا عندما أدركت ان صوت هذه المحطات مسموع أكثر من غيرها لأنها تتمتع بقدر أفضل من الموضوعية والمصداقية. فمن منا يشاهد التلفزيون العراقي؟ وحتى لو شاهدناه فهل سنقبل عليه كما نقبل على "MBC" و"الجزيرة"؟ وما يذكره المسؤول العراقي مثلاً في هذه المحطات قد يختلف كثيراً عما يردده في القناة المحلية. ليس بمعنى ازدواجية الخطاب، ولكن لأنه لا يوجد في الداخل من يسأله عن المعارضة العراقية أو غير ذلك من الملفات الدقيقة والحرجة! وعندما تستفيد الانظمة من القطاع الخاص أو الاعلام الحر دون التفكير في تطوير إعلامها المحلي وتطعيمه بقليل من حرية المبادرة والتعليق، فإن ذلك يعكس في حد ذاته بعداً من أبعاد واقعنا السياسي المعقد. وان كنا نلاحظ من جهة اخرى ان "العدوى الصحية" قد أخذت تتسرب الى بعض القنوات المحلية وتطعمها فتخرجها تدريجياً من رتابتها السابقة. في ضوء الملاحظات السابقة تتبين الحاجة الى دراسات ميدانية ومضمونية تقوم بتحديد هذا النمط الجديد من الاعلام العربي في التخفيف من حدة الاغتراب الاعلامي، وتوجيه أو صناعة رأي عام عربي تعددي وواع. فديموقراطية الصورة قد تصبح المدخل لترويض الأنظمة على قبول تدريجي للديموقراطية السياسية!