لم يعد الإعلام الحكومي وظيفة إجرائية لنقل القرارات أو توضيح الأنظمة، بل أصبح إحدى أهم أدوات بناء الثقة وتعزيز العلاقة وتعظيم الشفافية بين الدولة والمجتمع، فالجمهور في العصر الرقمي لا يكتفي بصحة المعلومة، بل يراقب طريقة تقديمها، ويقيس صدقيتها من خلال انسجام الخطاب وسرعة التفاعل ووضوح الرسالة، وقدرتها على الإجابة عن الأسئلة قبل أن تتحول إلى تأويلات أو شائعات، وهو ما فرض على الجهات الحكومية إعادة تعريف دورها الإعلامي، والانتقال من الاتصال الأحادي إلى تواصل يقوم على الفهم والاستباق. وتكشف المؤشرات المحلية حجم هذا التحول، حيث بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي أكثر من خمسة وثلاثين مليون مستخدم، بما يعادل ما يزيد على أربعة وتسعين في المئة من إجمالي السكان، وتعكس هذه الأرقام واقعًا جديدًا يتمثل في أن الرسالة الحكومية باتت تصل إلى جمهور واسع ومتعدد الفئات، لا ينتظر المعلومة عبر القنوات التقليدية، بل يتلقاها عبر منصات مختلفة ويقارنها فورًا بما ينشر في فضاءات أخرى. لذا لم تعد المؤسسات تملك ترف الانتظار أو الإطالة في إيصال رسائلها، فالمعلومة اليوم تتحرك بسرعة تفوق قدرتها على التفسير، ويتشكل الرأي العام في مساحات رقمية مفتوحة لا تعترف بالحدود ولا تنتظر الصياغات المطولة، وفي هذا المشهد المتغير يقف الإعلام الحكومي أمام تحد دقيق يتمثل في الحفاظ على اتزان الخطاب الرسمي، مع مخاطبة جمهور تغيرت لغته وتبدلت توقعاته، وأصبح أكثر حساسية تجاه الأسلوب والتوقيت بقدر حساسيته تجاه المضمون. وعلى الصعيد العالمي تتقاطع هذه التحديات مع أزمة ثقة متنامية، إذ أظهر تقرير Edelman Trust Barometer لعام 2025 أن نحو سبعين في المئة من المشاركين حول العالم يعتقدون أن القادة والمؤسسات قد يضللون الجمهور عمدًا، وهي نسبة مرتفعة تعكس حساسية الخطاب الرسمي في زمن تتزاحم فيه المعلومات وتتسع فيه مساحة الشك، وهو ما يجعل أي تأخير في التوضيح أو تعقيد في الصياغة عاملًا إضافيًا في تآكل المصداقية، حتى وإن كانت الرسالة صحيحة في مضمونها. واستجابة لهذه المتغيرات شهد المشهد الحكومي في المملكة نقلة نوعية تمثلت في ترسيخ حوكمة التواصل والإعلام داخل الجهات الحكومية، حيث لم يعد العمل الإعلامي اجتهادًا فرديًا أو مجرد ردة فعل، بل أصبح مؤطرًا بسياسات واضحة وأطر تنظيمية وأدلة إجرائية، تضمن اتساق الرسائل ودقة المحتوى وتكامل الجهود بين الجهات، وأسهم هذا المسار في رفع جودة الخطاب الرسمي وتعزيز المهنية والحد من التباين في الطرح. وفي هذا السياق برزت جهود وزارة الإعلام ومركز التواصل الحكومي بوصفها عنصرًا محوريًا في تطوير منظومة التواصل الحكومي، من خلال تنظيم المشهد الإعلامي وتوحيد الرسائل في القضايا المشتركة، ورفع كفاءة الإدارات الإعلامية والمتحدثين الرسميين، وتطوير أدوات الرصد والتحليل، وتعزيز الاتصال الاستباقي بدل الاكتفاء بردود الفعل، وهو ما أسهم في ترسيخ مفهوم التواصل بوصفه جزءًا من الحوكمة المؤسسية لا مجرد نشاط إعلامي مرافق. ويعكس التقدم الذي حققته المملكة في مؤشر الأممالمتحدة لتطور الحكومة الإلكترونية لعام 2024 أثر هذا المسار، حيث جاءت ضمن الدول العشر الأولى عالميًا في مؤشر الخدمات الرقمية، وحققت مراكز متقدمة في المشاركة الإلكترونية، وهو تقدم لم يكن تقنيًا فحسب، بل عكس نضجًا في الخطاب الحكومي وقدرته على الارتباط بتجربة المستفيد اليومية وتقديم المعلومة في سياق مفهوم ومتسق. ويبقى التحدي قائمًا في الحفاظ على هذا التوازن الدقيق بين لغة رسمية تحفظ هيبة القطاعات الحكومية، والمحافظة على أسلوب تواصلي فعّال يفهم الجمهور ويحترم وعيه ووقته، فالإعلام الحكومي الناجح في العصر الرقمي هو الذي يستمع بقدر ما يتحدث، ويقدم المعلومة بوضوح وشفافية، ويدرك أن قوة الرسالة لا تقاس بعلو نبرتها، بل بقدرتها على بناء الثقة وترسيخ الفهم وتعزيز الشراكة مع المجتمع في زمن لا يرحم الغموض ولا ينتظر المتأخرين.