نحن نعيش في عصر يشبه الانفجار، كذبة واحدة قد تتحول خلال فترة بسيطة إلى "حقيقة مسلّمة"، تتناقلها الحسابات والمنصات والمجموعات وكأنها وحي لا يُرد، سرعة الانتشار التي منحتها التقنية للخبر، لم تُميز بين الصادق والمضلل، فبات الناس يتنقلون من إشاعة إلى إشاعة، بينما تتأخر الحقيقة في الوصول، إن وصلت أصلًا. في استطلاع عالمي أجرته "Edelman Trust Barometer" لعام 2024، قال 74 % من المستطلعين: إنهم يخشون من عدم قدرتهم على التفريق بين المعلومات الحقيقية والمزيفة، وهي النسبة الأعلى منذ إطلاق المؤشر، أما في المملكة، فقد كشفت الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع في دراسة محلية عن أن أكثر من 58 % من السعوديين تعرّضوا لمعلومات كاذبة على المنصات خلال الأشهر ال12 الماضية، في قضايا تتعلق بالصحة، والأمن، والاقتصاد، وحتى التعليم. لم يعد الخبر الكاذب حكرًا على "الناقلين الجاهلين" أو "الهواة"، بل هناك منظومات منظمة وممولة تهدف إلى التضليل، وتشويه الحقائق، وصناعة توجهات وهمية، وتُقدّر دراسة ل"جامعة أوكسفورد" أن أكثر من 81 دولة شهدت حملات ممنهجة من "التضليل الرقمي" خلال عام 2023، تقودها كيانات سياسية، وجيوش إلكترونية، ومؤثرون مأجورون. في المملكة، لا تمر أيام دون أن تصدر وزارة الداخلية أو الصحة أو التجارة بيانًا تنفي فيه خبرًا كاذبًا، بدءًا من إلغاء رسوم، مرورًا بقرارات مصيرية مزيفة، وانتهاءً بتحذيرات أمنية مفبركة، كل بيان نفي هو دليل على حجم التحدي، ففي الوقت الذي تعمل فيه الجهات الرسمية بأسلوب تقليدي نوعًا ما، ينتشر الكذب على طريقة "حرق الغابة"، حريق يبدأ بشعلة من حساب مجهول، لينتشر كالنار في الهشيم. ومع دخول الذكاء الاصطناعي على الخط، أصبحت معركة المعلومات أكثر تعقيدًا. فاليوم، يمكن لأي شخص توليد فيديو مفبرك بصوت وصورة شخصية معروفة خلال دقائق باستخدام أدوات مجانية، فوفقًا لتقرير صادر عن "Europol" في 2024، فإن 90 % من المحتوى على الإنترنت قد يتعرض للتحوير أو التلاعب خلال العقد المقبل، و80 % من الهجمات الإعلامية ستكون مدفوعة بأدوات توليد نصوص وصور وفيديوهات. والمشكلة الأعمق ليست فقط في الإنتاج، بل في الاستعداد النفسي لتصديق الكذب، الناس اليوم أصبحوا يفضلون "الخبر الذي يؤكد قناعتهم" لا "الحقيقة كما هي". وهذا ما تؤكده دراسة لمعهد "Pew Research Center" والتي ذكرت أن 64 % من المستخدمين يميلون إلى مشاركة الأخبار التي تتوافق مع آرائهم حتى لو لم يكونوا متأكدين من صحتها. فما الحل؟ الحقيقة أن المعركة ضد الأخبار الكاذبة ليست مسؤولية جهة واحدة، هي معركة تبدأ بالمراقبة من الجهات المعنية، وتمر عبر تعزيز أدوات التحقق، وتنتهي بتغيير سلوك الأفراد، في مملكتنا الغالية، بدأت وزارة الإعلام وإدارات التواصل في الوزارات والهيئات الرقابية وغيرها بالقيام بدور بارز، لكن التحدي ما يزال أكبر. ورغم هذه الجهود، تظل الثقة المجتمعية هي الخط الدفاعي الأهم، حين يثق المواطن في قنواته الرسمية ومؤسساته، يكون أكثر مقاومة للانجرار خلف الإشاعات، لكن عندما تضعف هذه الثقة، فإن الكذبة تصبح أقوى صوتًا وأشد تأثيرًا. ولعل أخطر ما في هذا الانفجار هو أن كل شخص أصبح ناشرًا، وكل هاتف أصبح منبرًا، وكل تغريدة قد تكون بداية أزمة حقيقية. الكذب لم يعد يحتاج مؤامرة، بل فقط شاشة وجمهوراً جاهزاً للتفاعل. في النهاية، لا يكفي أن نعرف أن هناك أخبارًا كاذبة، بل يجب أن نُدرب أنفسنا على التحقق من كل شيء، وأن نتوقف قبل أن نعيد النشر، أن نبحث قبل أن نصدق، أن نسأل: من قال؟ ولماذا الآن؟ وفي أي سياق؟