أدوات رصد وتحليل للمحتوى الرقمي المشبوه تعد وقاية المجتمع من خطاب الكراهية والمعلومات المضللة من أهم التحديات في عصر الثورة الرقمية، إذ باتت شبكات التواصل الاجتماعي بيئة خصبة لتناقل الأخبار الكاذبة وبثّ الكراهية والتحريض بين فئات المجتمع، وتسعى المملكة العربية السعودية، ضمن رؤيتها 2030، إلى بناء مجتمع واعٍ ومسؤول رقميًا، يمتلك أدوات التحقق والتفكير النقدي لمواجهة هذه الظواهر الخطيرة وخاصة خطابات الكراهية والمعلومات المضللة، وخطاب الكراهية هو كل تعبير لفظي أو مكتوب أو سلوكي يحضّ على العداء أو التمييز أو العنف ضد أفراد أو جماعات بناءً على العِرق أو الدين أو الجنس أو الانتماء. والمعلومات المضللة هي محتوى زائف يُنشر عمدًا بهدف تضليل الجمهور أو التأثير في الرأي العام أو زعزعة الثقة بالمؤسسات، وخطورة هاتين الظاهرتين على الأمن المجتمعي كبير. وتشير الدراسات الدولية إلى أن تداول الأخبار الكاذبة أسرع بسبع مرات من انتشار الأخبار الصحيحة، وأن 60 % من المستخدمين يشاركون معلومات دون التحقق من صحتها. وهذه الممارسات تؤدي إلى: تفكك النسيج الاجتماعي، وتعزيز الانقسامات الفكرية والسياسية، وتشويه صورة المؤسسات الوطنية، والتأثير على السلم والأمن العام. جهود المملكة في الوقاية والمواجهة كبيرة حيث عملت على إرساء بنية قانونية وتقنية وتنظيمية متكاملة، أبرزها: نظام مكافحة جرائم المعلوماتية الذي يجرّم نشر الشائعات وخطاب الكراهية والتحريض. وتراقب هيئة الإعلام المرئي والمسموع المحتوى الإعلامي وتحدّد ضوابط النشر الإلكتروني. كما أن الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) تطور أدوات رصد وتحليل للمحتوى الرقمي المشبوه. كما أن هناك مبادرات توعية رقمية تقوم بها وزارة التعليم وهيئة الحكومة الرقمية، لتعزيز الثقافة الإعلامية لدى الطلبة والمجتمع. «دور جوهري» ويلعب الإعلام الوطني دورًا جوهريًا في كشف الحقائق وتفنيد الشائعات عبر منصات مثل «تأكد» و»واس»، كما تشارك الجمعيات الأهلية في تعزيز الوعي عبر ورش عمل وبرامج تثقيفية تسهم في بناء حصانة فكرية ضد الكراهية والتضليل. وتعمل المملكة على إنشاء مراكز وطنية للرصد والتحقق السريع من الأخبار، وتطوير شراكات بين المؤسسات الإعلامية وشركات التقنية الكبرى لضبط المحتوى، وتمكين الشباب من إنتاج محتوى إيجابي وبنّاء يرسّخ قيم التسامح والاعتدال. إطلاق حملات وطنية دورية للتوعية بخطر الشائعات وخطاب الكراهية، ومواجهة خطاب الكراهية والمعلومات المضللة. ويعد الفضاء السيبراني مسؤولية مشتركة تصنع الأمن الفكري والاجتماعي، ويشكّل الفضاء السيبراني اليوم ساحةً واسعةً تتقاطع فيها المصالح والمعلومات، وتتنامى فيها التحديات الأمنية والفكرية في آنٍ واحد. ومع اتساع نطاق التواصل عبر المنصات الرقمية، برزت الحاجة إلى وعيٍ مجتمعيٍّ يحصّن الأفراد والمؤسسات من مخاطر التضليل الرقمي وخطاب الكراهية، ويُسهم في تحقيق الأمن الفكري والاجتماعي الذي تنشده المملكة ضمن رؤيتها الطموحة 2030. وأدركت المملكة أهمية التحول الرقمي الآمن والمسؤول منذ وقت مبكر وأن التحول الرقمي لا يمكن أن ينجح دون أساسٍ متين من الأمن السيبراني، فأسست الهيئة الوطنية للأمن السيبراني لتكون المرجع الوطني في حماية البنية التحتية للمعلومات. كما أطلقت هيئة الحكومة الرقمية ومبادرات «سدايا» وهي منظومات متقدمة للذكاء الاصطناعي وحوكمة البيانات؛ لتأمين تدفق المعلومات وضمان موثوقيتها بما يخدم التنمية الشاملة. ويمثّل المجتمع الواعي والإعلام المسؤول جناحي الوقاية في هذا الفضاء المتسارع. فالمؤسسات الإعلامية الوطنية مثل جريدة الرياض ووكالة الأنباء السعودية (واس) وبقية الجهات الإعلامية بالمملكة تقود جهود التحقق من المعلومات ونشر الوعي، فيما تسهم الجمعيات الأهلية والجامعات في تعزيز الثقافة الرقمية والتفكير النقدي لدى الشباب، باعتبارهم الفئة الأكثر استخدامًا للتقنيات الحديثة. «منظومة رادعة» وتتكامل الجهود مع الإطار القانوني المتمثل في نظام مكافحة جرائم المعلوماتية، الذي يجرّم نشر الشائعات، والإساءة، وخطاب الكراهية عبر المنصات الرقمية، ويؤكد أن المسؤولية في الفضاء السيبراني لا تتوقف عند حدود التقنية، بل تمتد إلى سلوك الفرد وأثر الكلمة وصون الصورة العامة للوطن. ويقود الفضاء السيبراني نحو أمن فكري مستدام ولا تقتصر على تأمين الأجهزة والأنظمة، بل تشمل ترسيخ قيم التسامح والاحترام والاعتدال في المحتوى الرقمي، ورفع مستوى الوعي الإعلامي لدى المجتمع. فالمواطن الرقمي الواعي هو خط الدفاع الأول، والمؤسسات الإعلامية والتعليمية هي الحاضنة التي تصوغ هذا الوعي. والفضاء السيبراني مسؤولية مشتركة بين الدولة والمجتمع والإعلام والأفراد، وكلّ طرفٍ يسهم بدوره في حماية هذا الفضاء من التشويه والتضليل. فبقدر ما نزرع من وعيٍ ورقيٍّ في التعامل مع التقنية، نبني لبنة جديدة في صرح الأمن الفكري والاجتماعي الذي تنشده المملكة، ونحافظ على فضاءٍ رقميٍّ آمنٍ يعكس الصورة المشرقة لوطنٍ متقدّمٍ ومجتمعٍ متماسك. ًكل ذلك يعد خطوةٍ بارزة تترجم رؤيته للمستقبل الرقمي، حيث أضحت المملكة العربية السعودية اليوم منصةً راسخة لفضاءٍ رقميٍّ آمنٍ، يعكس صورة وطنٍ متقدّم ومجتمعٍ متماسك. ومن خلال مؤشّرات وإحصائيات حديثة تظهر السياسات والمبادرات الرقمية والتقنية في المملكة بوضوح، يمكن ترسيم مسار التحوّل الرقمي، وأيضًا موضعة الأمان الرقمي كمكوّن أساسي لعملية النهوض. «الأعلى عالمياً» ويُظهر تقرير الدليل التجاري للقطاع الرقمي في المملكة أنها استثمرت ما يزيد على 24.8 مليار دولار خلال ست سنواتٍ في البنية التحتية الرقمية، ما أحدث طفرةً في جودة خدمات الإنترنت. وولدت هذه الاستثمارات نتائجاً ملموسة بلغت نسبة انتشار الإنترنت في المملكة نحو 99 %، بينما ارتفعت سرعة الإنترنت عبر الأجهزة المحمولة إلى متوسطٍ يبلغ 215 ميغابت / ثانية، ما يضع المملكة ضمن أعلى الدول في العالم من حيث سرعة الإنترنت. وكذلك، شهدت تغطية شبكات الجيل الخامس (5G) انتشاراً واسعاً، إذ وصلت إلى نحو 77 % من المملكة، مع نسبة تفوق 94 % في العاصمة الرياض فقط. وهذه البيئة الرقمية الحديثة تشكّل الأساس الذي يتم عليه بناء الأمان الرقمي، وتمكين الخدمات الحكومية والخاصة من الانتقال إلى فضاء رقمي موثوق. ونشأسوق التحوّل الرقمي والفرص الاقتصادية فوفقاً لدراسةٍ صادرة حديثاً فإن سوق التحول الرقمي في المملكة حقّق إيراداتٍ بلغت 14.48 مليار دولار خلال عام 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى 69.82 مليار دولار بحلول عام 2030، بمعدّل نمو سنوي مركّب (CAGR) يبلغ تقريباً 30.9 % بين 2025 و2030. وفي سياقٍ موازي، كشفت بيانات من "Mordor Intelligence" أن السوق السعودي للتحول الرقمي بلغت قيمته 55.15 مليار دولار في عام 2025، مع توقعات للوصول إلى 90.25 مليار دولار بحلول عام 2030، بمعدّل نمو سنوي يبلغ حوالي 10.35 %. وهذا النمو ليس محض رقمٍ بل يعكس كيف أن الحكومة والقطاع الخاص انتقلا من مرحلة التخطيط إلى التنفيذ، مع دمج تقنيات الحوسبة السحابية، الإنترنت للأشياء، والذكاء الاصطناعي في صميم الاستراتيجية الرقمية الوطنية. ومع تسارع التحوّل الرقمي، تتصاعد المخاطر السيبرانية، فبحسب دراسة PwC «Digital Trust Insights 2024» الخاصة بالمملكة، فإن حوالي 73 % من المشاركين في المملكة أكدوا أن المخاطر الرقمية والتكنولوجية تحتل المرتبة الأولى ضمن أولوياتهم، مقارنة ب 51 % على المستوى العالمي. أما فيما يخص التهديدات السحابية، فأفاد نحو 70 % من المستطلَعين بأنهم يقلقون من تلك التهديدات - مقابل 47 % على المستوى العالمي. هذه المؤشرات تؤكد أن الأمان الرقمي ليس مجرد معيار تقني، بل عنصر جوهري يُستأمن به استقرار الوطن وتقدّم المجتمع. وفي سياق السوق، أشارت دراسة حديثة أيضا إلى أن حجم سوق الأمن السيبراني في المملكة بلغ 6.94 مليارات دولار في عام 2024، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 17.534 مليار دولار بحلول عام 2030، بمعدّل نمو سنوي يبلغ نحو 17 %. «تهديدات متزايدة» وهذا النمو الكبير يُظهر التزام المملكة بتعزيز منظومة الحماية الرقمية، وحماية المنشآت الحكومية والقطاع الخاص من التهديدات المتزايدة. من جهةٍ أخرى، أظهرت تقارير أن 94 % من المؤسسات السعودية اختارت خدمات XaaS (Everything‐as‐a‐Service)، ومنها الحوسبة السحابية، كأولوية استثمارية خلال السنوات المقبلة. كما أظهرت الدراسة نفسها أن 75 % من المؤسسات في المملكة تمكنت من تحقيق استفادة من تقنيات التحول الرقمي بزيادة ربحية خلال 24 شهراً، وأن أكثر من 50 % سجلوا زيادة ربحية تتراوح بين 11 و15 %. وهذا التقدم في القطاع التنظيمي والتحوّلي يُعزّز الثقة الرقمية لدى المستخدمين، ويؤسس لفضاءٍ رقمي أكثر أماناً واستدامة. وبناء مجتمعٍ رقمي متماسك، فالصورة المشرقة التي يُراد أن يعكسها الفضاء الرقمي السعودي ليست مجرد أرقام وتقنيات، إنما هي مجتمعٌ متماسك يتمتّع بالثقة في مؤسساته وخدماته الرقمية. ففي استراتيجية التحوّل الرقمي الوطنية، يُعدّ الأمان الرقمي ركناً مهماً ضمن الهدف الشامل للبيانات والإدارة المتكاملة، حيث يشكّل 20.4 % من الأهداف الاستراتيجية. ومع توفر الإنترنت بشكل شبه شامل، وسرعة الخدمات الرقمية، وتوسّع الخدمات الحكومية والإلكترونية، يصبح المواطن والمقيم جزءاً فاعلاً في هذا الفضاء، مستفيداً من خدمات الحكومة الرقمية (G2C)، والخدمات بين المؤسسات (B2B)، والخدمات المتنقلة. وبينما تزداد شعبية الخدمات والمحتوى الرقمي، فإن الوعي بأهمية الأمان يتنامى، وهذا ما تعبّر عنه مؤشرات القلق المرتفعة لدى المؤسسات حول المخاطر الرقمية، كما ذكرنا أعلاه. لذا، فإن بناء مجتمعٍ رقمي متماسك يعني ليس فقط الوصول إلى الإنترنت أو امتلاك حساب رقمي، بل أيضاً الثقة بأن النظام الرقمي محمي، وخاضع للحوكمة، ويخدم الجميع. «تحديات وآفاق» وبالرغم من هذا التقدّم اللافت، فإن الطريق لا يخلو من تحديات. فوفقاً لتقرير KPMG، فإن 66 % من المؤسسات السعودية ترى أن ثغرات في أنظمة تكنولوجيا المعلومات الأساسية (legacy systems) قد «لاقدر الله» تؤثر على سير العمل بشكل أسبوعي. كما أن ارتفاع المخاطر الرقمية يتطلب استثمارات متنامية، ومواكبة مستمرة للتقنيات، وتعزيز الكوادر وتأهيلها لحماية الفضاء الرقمي. من جهةٍ أخرى، يتطلب الحفاظ على الأمان الرقمي استمرار الجهود في تحديث الأطر التشريعية والتنظيمية، وتحسين الوعي العام، وضمان حقوق المستخدمين والبيانات. ومن الناحية الاقتصادية، فإن سوق التحول الرقمي والأمن السيبراني المترابطين يوفر فرصاً هائلة للنمو، وللمملكة أن تُرسّخ موقعها كمركزٍ إقليميٍ ودولي في هذا المجال. ومن منظور اجتماعي، فإنّ توفير فضاء رقميٍّ آمن يعزّز شعور المواطن والمقيم بأنهم جزءٌ من مسيرة وطنٍ متقدّم ومجتمعٍ مترابط. وفي ضوء هذه المعطيات، يمكن القول إن المملكة قد أوجدت فعلياً فضاءً رقمياً آمناً، يعكس ليس فقط صورة تقنية لوطنٍ يتقدّم، بل رسالةً مجتمعية تُكرّس قيمة المواطنة الرقمية، والتشارك الرقمي الآمن، وتحفيز الابتكار والموثوقية. ما بين البنية التحتية القوية، وتحول المؤسسات، واستثمار الأمن السيبراني، يتبدّى مشهدٌ يُؤسس لمستقبل ينعم فيه المجتمع الرقمي بالأمان والتقدّم معاً.