غالبا ما تفسر الخسائر المالية الأخيرة في قطاع البتروكيماويات على أنها نتيجة متوقعة لضعف الطلب العالمي، وزيادة الإنتاج بدخول منافسين جدد مثل الصين، وانخفاض الهوامش. لكن يوجد سبب أعمق ذكره عدد من المختصين يتعلق بالنموذج الاقتصادي، فقطاعنا بني للحاق بالركب وهو اليوم يصطدم بحدود نجاحه. على مدى عقود، مثلت البتروكيماويات السعودية نموذج اللحاق بالركب. مكنت المواد الخام الرخيصة والنطاق الواسع والبنية التحتية المتكاملة والتميز التشغيلي لسابك مثلا لتصبح رائدة عالميا في صناعة البتروكيماويات. نجحت هذه الاستراتيجية تحديدا لأنها مثلت المرحلة الأولى للتنمية في المرحلة المبكرة: التقليد بكفاءة، والتوسع بسرعة، واستغلال الميزة النسبية. لكن لكل مرحلة نهاية، فكلما بلغتَ حدود التقنية ضعفت سياسات التقليد. تقع البتروكيماويات اليوم على حدود جديدة لا يحكمها حجم الإنتاج لكن المعرفة. تعمل المواد المتقدمة والمواد الكيميائية المتخصصة والكيمياء الدائرية والاكتشاف الجزيئي القائم على الذكاء الاصطناعي على إعادة تشكيل الصناعة. في هذه البيئة، لم يعد حجم الإنتاج هو المربح، بل قد يكون عبئا يتطلب التخلص منه. ليست المفاهيم الجديدة التي نتحدث عنها غائبة عن القطاع في المملكة، لكنها ما زالت تقيم على الهامش، وتستقطب بمنطق اللحاق بالركب مخلفة فجوة استراتيجية تجعل الأرباح هشة أمام تقلبات الأسعار وقوى التنافس العالمي. فكيف تعالج الفجوة الاستراتيجية؟ الخطوة الأولى هي إدراك أن المشكلة هيكلية وليست مؤقتة. الضغط على الهوامش ليس نتيجة دورة روتينية، إنما يعكس واقع المنتجات التي أصبحت سلعا عالمية تتمايز بالأسعار، فكما لحقنا بالركب فقد لحق غيرنا بالركب أيضا. بالنسبة للبتروكيماويات، لابد من الاعتراف أن بعض المنتجات لن ترجع لعوائدها التاريخية. الخطوة الثانية هي التحول من ميزة التكلفة إلى ميزة الابتكار. المنافسة ليست في هندسة المدخلات، إنما منافسة في الأفكار. هذا يعني الحد من التوسع في القدرات الحالية لتحسين الهوامش والاستثمار في مجالات البحث الجديدة: المركبات المتقدمة، ومواد عالية الأداء، والمواد الكيميائية للبطاريات والهيدروجين، والمواد الخام منخفضة الكربون أو الحيوية. يمكن الاستمرار في تطوير عمليات رشيقة، لكن العائد على الاستثمار لابد أن يأتي من المعرفة. ثالثا، يجب تطوير المنافسة على الهوامش. لابد أن يبقى الأبطال الوطنيون مثل سابك ليحركوا المنافسة لكن لابد أن يشارك الصغار في التجريب. نحتاج أن نشجع سياسة الشركات الناشئة الكيميائية والشركات المنبثقة والمشاريع المشتركة، مع وجود مصادر تمويلية صبور. رابعا، لابد من إعادة بناء الابتكار على المعرفة العلمية الأساسية وليس الهندسية فقط. تتطلب البتروكيماويات ابتكارا أعمق أثرا بالتكامل مع الجامعات البحثية في مجال الكيمياء الحاسوبية واكتشاف المواد بمساعدة الذكاء الاصطناعي. ينبغي أن تقود الجامعات الأجندة البحثية ضمن شبكة بحثية عالمية باعتبارها أصولا صناعية أساسية، لا أصولا على الهامش. أخيرا، إذا أنشئت شبكة تمويلية وشركات ناشئة حول الأبطال الوطنيين، لابد للسماح بالهدم الخلاق أن يؤدي دوره في القطاع. أن يسمح بتمويل مئات الشركات الناشئة ولا يبقى منها إلا العشر بين شركة مستقلة أو مستحوذ عليها. الدرس الذي نتعلمه من خسائر قطاع البتروكيماويات أن القطاع في مرحلة تحول ولابد أن نتحول معه. فإما أن ننعطف مع التيار فيغلبنا، أو نغلب التيار فينعطف معنا.