يردّ العطّاس علاقات المستوى العلمانيّ (الدنيوي) الظاهريّ، وتحديداً علاقة «المديونية» في ظاهرة «المدينة» إلى مستوى العلاقات الحقّة التي بنتها من أصل فطريّ. وفي هذا المقال كشف لهذا الأصل الفطرية من علاقة بين الربّ والإنسان، وفق ميثاق الإشهاد في عالم الذرّ. فهو العلاقة الحقيقية للإنسانيّة، المركوزة في فِطرهم، والمؤسِّسةِ للمعاني التي تنعكس في حياة الناس. فمجموعات الدلالات الأربع تحت «دَيْن» -كما تقدّم-، وفق المستوى العلمانيّ، في أصلها مجموعات تمثل ظاهريّ؛ تمثل انعكاساً لبعض العلاقة الحقيقية الأولى. ويستثنى انعكاسها الواعي المُطبَّق في المجال الإسلاميّ، وفق شروط تخضعه لعمق التأليف والتكثيف ممارسة وتمثّلاً، وتحققاً بالعمل، وتعرّفاً بالعلم. حيث أنّ الدين الإسلاميّ اعتقاد، وإيمان، وممارسات، وتعاليم مُلزمة، وعيش بتداخلها كلها، فكل عضو في المجتمع المسلم يمثّل الإسلام في فرديّته وفي تعالقه الاجتماعيّ مع الآخرين. والسؤال: كيف يمكن لمفهوم «المَدِين» بوصفه طرفاً في علاقة «الدائنيّة» أن يُرد للعلاقة الحقّة في ميثاق الإشهاد؟ بالنسبة للحالة العلمانية؟ يبيّن العطّاس الجواب بردّ أصل «علاقة الظاهرة الإنسانية» إلى «علاقة الحقيقة الإنسانيّة»، وهي حالة الميثاق بين الله سبحانه والإنسان، فالإنسان مَدِيْن للرب؛ خالقهُ ورازقهُ ومُوجِده في هذا الوجود، وحافظهُ فيه، وقد كان الإنسان من قبل عدماً. وعندما يتفكّر الإنسان برُشْدٍ في وجوده هذا؛ فسيقوده رشده إلى أنه مَديْنٌ لمن أوجده من العدم، ووهبه الحياة والرزق وكل شيء. فالإنسان الرشيد يدرك أن نفسه عرفت إلهه أولاً بوصفه «ربّاً» (وذلك في آية الإشهاد «ألست بربّكم»)، قبل وجوده في كيانه الإنساني بعد النفخ. وطبيعة هذا الكائن «المَدْيِن» تجاه نعمة الخلق، والوجود؛ عادة هي الخسران، لأنه معدمٌ لا يملك شيئاً يؤدّي به دَيْنَهُ، فكل ما في الوجود ملك للخالق سبحانه. وبرؤية حقيقة نفسه المدينة لخالقها، وأنّه مكلّف بدفع دَيْنه، فسيتبصّر أن لا طريق للوفاء به إلا وعيه بحقيقة أنه هو هذا «الدَيْن»؛ فهو الذي يجب إرجاعه وإعادته إلى مالكه المطلق، وذلك بتعبيد نفسه لخدمة سيده، أو بوصف الخليفة، خضعاناً لسيّده ومالكه سبحانه، موفّياً بأوامره ونواهيه وأحكامه التي شرعها، راجعاً إليها كلّ مرة، حتى يرجع بكليّته إلى ربّه. ومن هنا يأخذ العطّاس دلالة «الإرجاع» ليدخلها تحت البنية المفهومية ل «دان»؛ والذي قد يعني أيضاً: الرجوع إلى الطبيعة الفطرية للإنسان. وليبين العطّاس هذا المدخل بتفسيره الإشاريّ المتكلّف الممتع؛ جاء بآية «والسماء ذات الرَجْع»، مؤوّلاً كلمة «رجع» ب»مطر»، في تمثيل استعاري، يتخذ من رجوع الإنسان لربّه دائماً عادة المطر «ديمة»، والرجوع النهائيّ للإنسان ب «الربح»، حيث ينعطف العطّاس من طريق إشاريّ طويل، ليربط بين عدم الوفاء بالدين «الخسران»، وضد الخسران «الربح»، والربح هو المنافع والخيرات، وفي أصلها وفاء بهذا الدين، وهذا مثل المطر من حيث هو محمّل بما يقتضيه من خيرات ومنافع، والمطر كثير العود والرجع كل مرّة، وبه تستقيم الحياة، كذا الإنسان لا بدّ أن يعيد الربح مرّة بعد مرّة، بخصيصة «الرجوع» مثل المطر، فيكون حيّاً في ذاته بشريعة ربّه، مرة بعد مرّة، حتى الرجوع النهائيّ بنفس مطمئنة «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربّك راضية مرضيّة». وهذا عندهُ معنى قول «من دان نفسه رَبِح»، وتعبير «دان نفسه»، أي: عبّد نفسه للخدمة، ومن ثمّ أيضاً إرجاع نفسه لمالكها. وجاء هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم: «الكيّس من دان نفسه وأعدّها لما بعد الموت»؛ أي بالمحاسبة والإعداد للرجوع النهائيّ. والمطر كذلك يمنح الحياة كل مرة يعود فيها، كذا الإنسان في تديّنه يمنح الحياة بتصرفاته وفق ممارساته الدينية، المؤسسة على علاقته بالله، فهو في رجوعه آتٍ بالخيرات، وفي مكافأته محصّلٍ للجزاء، وقد ورد الجزاء في هذا السياق أيضاً بلفظ «قرض»، في قوله تعالى: «من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً»، فتعبير «قرضاً حسناً»؛ معنى مجازيّ يشمل حياة الإنسان كلها، فعبادته وأعماله الصالحة، هي القرض، وسيجزيه «الديّان» سبحانه عليها، يوم الملك والحساب والدِين، وفي قوله سبحانه: «مالك يوم الدين» إشارة لاسم مالك، الذي يملك المَدْين ودينه، في يوم المجازاة «الدين». فالإنسان في علاقة «الدائنية» بين طريقين: طريق يستقي ويتجلّى فيكون رابحاً فيه عند الرجوع، وطريق تبرز فطرته وفق ظواهره الاجتماعيّة، لكنه خاسر فيه عندما يردّ إلى ربّه (وقد فرّق الفيروزآبادي بين الرجوع والردّ، لإيجابية وخيرية الرجوع، وكراهية وشرّ الردّ). وحقيقة الإنسان في الحياة مرتحل في رحلة رجوع إلى ربّه سبحانه.