تقدّم في المقال السابق ذكر علاقة "المديونية- الدائنية" عند العطّاس، في وصف بروز الفطرة بالمعاني الكامنة تحت "دِيْن"؛ رادّاً العلاقات الإنسانية إليها، وفق منهج فينومينولوجي، يصف مستخلصاً من الظاهرة المعنى الكامن، ومن ثمّ يصله ب"دان" و"دِيْن"، وفق المستوى العلماني (يُرادفه بالدنيويّ). فالطرف الخاضع هو "المَدِيْن" وما تضمّنه من معانٍ متعددة بعضها متناقض، وكلها تتصل ب"الديون"، وهي حالة الإنسان ال"مَدِيْن"، وما يقتضيه من خضوعٍ وإطاعة للقانونِ، والالتزام بأحكام الديون، وسلطة "الدائن"؛ حتى يوافي دينه، في علاقة المَديْن بالدائن، وهي "الإدانة"(المديونيّة)؛ والتي قد تدلّ من جهة على الحكم الصادر في حقّ المحكوم عليه في قضيّة "مُدان". وهذه التناقضات الكامنة بين دلالات العلاقة (خاضع، ومخضع، ونزوع للخضوع، وعلاقة مديونية... وغيرها مما تولّده كل مجموعة منها من معانٍ أُخر)؛ لا تحصل إلا من حيث تجلّيها العملي في مجتمعات منظّمة، ومنخرطة في حياة اقتصاديّة أو تجارية (قرى أو مُدن)؛ إذ علاقة "المديونية" لم تَسِم التعالق بين أطراف العلاقة وحسب، بل وسمت المجال المكاني الذي تتم فيه هذه العلاقات، ومنه أُطلق لفظ "المدينة" على هذا التجمّع الحضاري المجلّي لعلاقة "الدائنية"؛ إذ في المدينة طرف العلاقة الأدنى: المدين، المحكوم، المدان، الشعب... وطرفها الأعلى: قاضي، وحاكم، وحكومة... وهم أهل السلطة الحكيمة، ومسمّاهم وفق هذه العلاقة: "الديَّان"؛ فهم الشواخص الممثلة لدلالة "دان" في طرفها الأعلى. وفي الحياة الحضرية المعاصرة نجد طرف "السلطة الحكيمة" لا في الأشخاص أصالة، وإنما في القوى المنظّمة لهذه العلاقة في شكل: القانون، والنُظم، والعدالة، والسُلط. وهذه الفعالية عّرّفت بأنها فعلٌ موجّه لتشكيل الناس وفق هذه العلاقة التعامليّة، وهي "التمدّن" (التحضّر)؛ والتي تدل على معاني الحضارة، والتحسين، والتطوير للثقافة الاجتماعيّة، مسبوقة بتشكيلات ماديّة هي: "مَدَّنَ"؛ أي بناء وإنشاء المدن، وتطويرها، وتحضيرها، وأنسنتها. وهكذا يستنتج من المعاني الأساسية لحالة "الدَيْن" من "دان"، وفق المستوى العلماني لبروز الفطرة؛ ارتباطات بمجموعاتٍ لمعانٍ أخرى متميزة، مثل: 1) مجموعة مترابطة بالطرف الأدنى: الإذلال، والتسيّد، والسيّد، والتحرر من العبودية. 2) ومجموعة مترابطة بالأعلى: القاضي، الحاكم، المحافظ، والتي بدورها تحيل ل: 3) مجموعة مترابطة لصفات الأعلى: الهيبة، والسلطة، والقوة؛ لرجل ذو مكانة عالية ومجد. 4) ومجموعة مترابطة للعلاقة: الحكم، أو الجزاء، أو الحساب. ومجموعة خامسة في عصرنا؛ إذ فكرة القانون، والنظام، والعدالة، والسلطة، وتحسين الثقافة المجتمعية؛ كلها كامنة في هذه الدلالات المتميزة، الآتية من مفهوم "دان"؛ والذي يفترض وجود وضع أو أسلوب متسق مع ما ينعكس في هذه الأفكار المعاصرة، وهو أسلوب لتِكراره يصبح وسماً للمجتمع، وصانعاً لهويّته، وهو المسمّى بالعادات والمألوفات، ومن هنا يمكن أن تتجلى مجموعة دلالات للفظ "دان"، وهي: 5) مجموعة مترابطة من العادات والمألوفات والتصرفات والنزوع الطبيعي. إذن، برؤية هذا التقاطع؛ يظهر جليّاً أن مفهوم "دِيْن" في أهمّ علاقة له "المديونية" أو "الدائنية"، يتجلى من انعكاسه في الظاهرة الإنسانية الاجتماعيّة "المدينة"، في شهادة لبروز فطريّ في أصل تشكّل المجتمع، من علاقة فيها قانون وحكم وخضوع. وحدود هذا المستوى الوجودي التعاملي هي: التعامل الدنيوي (الآن وهنا)؛ لذا يسمه العطّاس ب "الدنيوي" أو "العلماني"، ويستخلصه بالطريقة الفينومينولوجية أولاً، وبعد ذلك بالمنهج الدلاليّ يعيد وصله بالمعاني الدينية عن طريق الألفاظ القرآنيّة، في أهم لفظ فارق بين العلمانية وغيرها، وهو "الدين". فالتمدّن وفكرة "المملكة" أو "العالمية"؛ كلها علاقات مجتمعية ضخمة كامنة في مفهوم "دِيْن"؛ المفهوم الموجود قبل أن نعرّفه، ونحسب أنه ناشئ اجتماعيّ عفويّ؛ من مقتضيات الاجتماع الإنساني العادي، دون الأصل الفطريّ. ومعرفتنا به من هذا الطريق مهمة للغاية؛ لتعيننا على فهم أعمق للظواهر الإنسانيّة، وكيف نوظفه لفهم عدد من ممارسات دينية، ووجود روحانيات في الخبرة الوجوديّة الإنسانيّة، ومن ثم يَستعمل طريقة الرد الانعكاسيّ لحقائق هذه الظواهر، وهي حقائق الوحي والفطرة، وهو المستوى الأعمق. فالعطّاس هنا بيّن الظاهرة، ووصلها بأصلها الفطريّ، وحصرها في العالم الدنيوي حينما انقطعت عن الدين. وفي المقال القادم -إن شاء الله- تبيينٌ للمستوى الأعمق لهذه العلاقة، وهو الفطريّ الديني. مع تذكير بأنّ الدنيا ليست نقيض الآخرة بل أول الخطوات نحوها، كما بيّن ذلك في الرؤية الإسلاميّة الكونيّة -كما تقدّم-.