تقدّم في المقال السابق، إشارات موجزة مضغوطة لطريقة العطّاس الناقدة والبانية للمعرفة، على مفترق طرق بين رؤيتين كونيتين تُجمعان في زمننا؛ جمعاً يُحدث أزمات عدّة، مركز أعاصيرها على سطح الترجمة اللفظية التي ترى الدلالات وفق أدنى مستويات العلاقة بين الدال والمدلول. ليُظهر حجاجيّاً أنّ الدلالات وفق هذا المستوى مجرد مظهر أوّلي، لا ينتظم فهمها إلا داخل بُنى مفهوميّة خاصة بكل لغة؛ وتحديداً تمكينها من تمييز المعاني الكامنة، التي تنتقل من حالة الكمون إلى الظهور من خلال علاقاتها التفاعلية مع كلمات أُخر (ترادف، تلازم، تناقض...). وظهرت منهجيته هذه في تبيينه لدلالة "دِيْن"، وكيف عرضها العطّاس بين سياقين غربيّ وإسلامي، مبيناً أولاً تجلّي الدلالات الكامنة ل"دِيْن" في الإسلام، بعدة تجليات، وأهمها ما يخدم إعادة تشخيص المعنى الغربي، لا عن طريق المدلول المعهود، وإنما عن طريق التفاعلات الإنسانية التي أظهرت الفطرة الكامنة للإنسان، وثانياً عن طريق المدلول الموصول بالقول الإلهي. ومعتمد المقال وما يليه، على تفصيل رؤيته للمعاني الكامنة تحت "دِيْن" من طريقي الدلالة المباشرة، وسميّتُها ب "الاستقاء"، وطريق الدلالة غير المباشرة وسميّتها ب"التجلّي"، فالاستقاء هو دلالات المعاني المباشرة وفق الاستعمال القرآني، وما يلزمه من تطبيق مباشر، أمّا "التجلّي" فهو من لوازم الأولى عند الامتثال تطبيقاً للقرآن عملياً، أو عند عدم الامتثال من خلال بروز الفطرة التي لا تتغيّر، وتبرز من خلال التفاعلات الإنسانية، ولكنها فاقدة لوجهتها؛ ومن ثمّ فقدت صواب المعرفة مقطوعة الصلة بأصلها وفق الميثاق الإلهي مع الإنسان في عالم الذرّ. ولذا يصف العطّاس المعرفة في اختلاطها بما يزيّفها من خلال اللغة عبر أصغر وحدة "المفاهيم"، وأنّ المفاهيم ليست منزوعة من شبكة مفاهيم تمنحها معانٍ أخر، فضلاً عن معانٍ كامنة لا تبرز إلا بهذا التعالق، فضلاً عن القوالب المفهومية التي تُشكّلها الممارسات الإنسانية بحسب الرؤية الكونيّة لكل ثقافة.. فطريقته هي تمييز الدلالات اللغوية والتداولية والكمون الذي لا يخرج إلا بالتفاعل؛ إن كمون من مصدر فطري، أو قرآني، أو تلفيقات لعادات وثقافات وموروثات عدّة، عبر طريقته التحليلية والبنائية عند توضيحه لدلالة "دِيْن"، حينما نوّع المسالك المجلّية لدلالات ومعانٍ كامنة تحت "دِيْن". ويمكن رصف المسالك تحت نوعين: نوع الاستقاء، وله "دِيْن": أخذاً مباشراً من القرآن الكريم، أو الفطرة التي حفظت ميثاق الإشهاد في عالم الذرّ. وهو مولّد للنوع الثاني: إذ الأخذ يتطلّب انفعالا يمثّل هذه المعاني؛ ومن ثمّ فالنوع الثاني هو التجلّي بهذه المعاني، وهي طرق تَمَثُّل الدِيْن (الامتثال)، وطرق تَمَثُّل الفطرة (البروز). ولا يكون الامتثال إلا ممن آمن بالإسلام وتمثّله، مع التحام بالفطرة التي يكمن فيها هذا النزوع للتديّن، جمعاً بين مصدري المعاني (القرآن والفطرة). وأمّا طرق بروز الفطرة دون طرق الامتثال للقرآن؛ فهو تجلٍّ للكامن الفطري فيمن انقطعت صلته بهذه المعاني معرفياً، فلا يبقى إلا بروز بعض كوامن فِطرهم، في تشكلات تحمل هذه المعاني، وخليط من معانٍ مُزيّفة لها. وقدّم للبروز الفطري دلالة "دان"، التي تكشف عن علاقة "المديونية" أو "الدائنية" الفطريّة. ليربط بين "دِيْن" في أصل الوحي مع "دان" في أصل الفطرة. وليدلل على هذا عمد العطّاس لتبيين هذه المعاني الكامنة تحت كلمة "دِيْن"، بردّها لجذرها اللغويّ "د، ا، ن"، وفق السياق الإسلامي القرآنيّ العربيّ، الذي تلتحم فيه عدة مصادر دلالية، ويمثّل من جهة تنزيلاً لواقع حقيقي يعاش في صميم الخبرة البشرية -وتقدّم ذكرها في المقال السابق، وهي: الدائنية، والخضوع، والسلطة الحكيمة، والنزوع أو الميل الفطريّ-. فكيف تبرز هذه المعاني الأربعة في حالة البروز الدنيوي المنقطع عن الوحي (العلماني)؟ عند التأمل في المعاني الأربعة التي انتخبها من "دِيْن" عبر "دان"؛ نجد "الدائنيّة" (المعنى الأوّل) هي العلاقة الأمّ التي تصبغ أطرافها؛ فالطرف الخاضع للآخر هو الذي تحلّ عليه حالة "الخضوع" (المعنى الثاني)، وخضوعه هذا من أصل تكوينه "الميل والنزوع الطبيعي-الفطريّ" (المعنى الرابع)، والطرف المقابل هو المُخْضِع "السلطة الحكيمة" (المعنى الثالث). وعند ربطها بما تقدّم من طريقتين لنوع التجلّي، طرق الامتثال وطرق البروز؛ فإنَّ كل جهة تثمر معانٍ أيضا، فتبرز على المستوى الدنيوي (العلماني) بمعانٍ، هي خلاصات المنهج الوصفيّ، وتُمثَّل على المستوى الديني الإسلاميّ بمعانٍ هي الأصل في معانيها الواضحة؛ ليظهر في نهاية المطاف أنّ كلمة "دِيْن" مبيّنة لطريقة الاستقاء، وكلمة "دان" مبينة لطريقة التمثّل امتثالاً أو بروزاً (التمثّل غير المباشر). وللتفصيل بقيّة إن شاء الله تعالى.