أصبحت الصناعات الإبداعية اليوم من أهم الفضاءات التي يُعاد من خلالها تعريف العلاقة بين الثقافة والمجتمع، لا بوصفها قطاعات إنتاجية فحسب، بل باعتبارها وسائط اتصال ثقافي قادرة على تحويل القيم والرموز إلى تجارب معيشة، ورافد اقتصادي مستدام في الوقت ذاته. فمن خلالها، تنتقل الثقافة من نطاق العرض إلى نطاق التفاعل، ومن كونها مادة تُقدَّم إلى تجربة تُختبر داخل تفاصيل الحياة اليومية. ومع هذا التحول، تتبدل أيضًا طريقة فهمنا لحفظ الذاكرة الثقافية إذ لم يعد الحفظ مرهونًا بالكتب أو المتاحف وحدها، بل أصبح فعلًا حيًا يُعاد عبره تشكيل التراث داخل وسائط تتقاطع مع وعي الجيل الراهن. فالثقافة لا تحيا حين تُصان فقط، بل حين تُعاد صياغتها بما يجعلها قادرة على التواصل مع الإنسان المعاصر بلغته وأدواته. وهنا، في تقديري، يكمن التحول الأعمق في علاقتنا بالتراث اليوم: الانتقال من منطق الحفظ الساكن إلى منطق التجربة الحية. وقد تجلّى هذا التحول بوضوح خلال مؤتمر التراث الرقمي، حيث ظهر التراث السعودي داخل ألعاب وعوالم تفاعلية صُممت بوعي بصري وثقافي لافت. لم تكن هذه التجارب مجرد أنشطة ترفيهية، بل منصات إعلامية جديدة تحمل الهوية وتعيد تقديمها بلغة العصر، لتغدو المتعة وسيلة ثقافية قادرة على ترسيخ المعنى وبناء الذاكرة. وفي هذا السياق، لا يُستدعى التراث بوصفه كتلة واحدة جامدة، بل عبر تنوعه الثري من التراث العمراني المستلهم من القرى التاريخية والدرعية والبيئات الحضرية القديمة، إلى التراث غير المادي المتمثل في الحكايات الشعبية والأساطير المحلية والعادات الاجتماعية وأنماط العيش اليومية. كما تحضر الفنون التقليدية، مثل: الزخارف الهندسية والخط العربي والنقوش النباتية، بوصفها عناصر بصرية قادرة على التحول إلى عوالم لعب نابضة بالحياة. وتشكّل المنمنمات الإسلامية مصدر إلهام بصري بالغ الأهمية في تصميم الألعاب التفاعلية، بما تحمله من سرد بصري وتكثيف رمزي وبناء مشهدي غني بالتفاصيل. فالمنمنمات، التي لا تعتمد على المنظور الواقعي بقدر اعتمادها على الترتيب الرمزي للفضاء، تمنح صنّاع الألعاب إمكانات واسعة لبناء عوالم خيالية تستند إلى الجماليات الإسلامية، وتقدّم رؤية بصرية مغايرة للنماذج الغربية السائدة، دون أن تفقد بعدها السردي أو التفاعلي. وفي هذا الإطار، يبرز الإعلام الثقافي والترفيهي بوصفه أحد أكثر مسارات الاتصال الثقافي تأثيرًا، حيث يلتقي السرد بالانغماس، والمعرفة بالممارسة. فالسينما، والألعاب الرقمية، والقصص المصورة، والأنمي، لم تعد مجرد منتجات للاستهلاك، بل تحولت إلى أدوات فاعلة في تشكيل الوعي الجمعي، وبناء الصورة الثقافية للدولة، وتعزيز حضورها الرمزي على المستويين المحلي والعالمي. وتُعد رقمنة التراث أحد أبرز تجليات هذا المسار، إذ لم يعد التراث يُقدَّم بوصفه مادة تُشرح من الخارج، بل كخبرة تُعاش داخل بيئات رقمية تفاعلية تجعل المتلقي شريكًا في إنتاج المعنى، لا مجرد متلقٍ سلبي له. فاللعبة الرقمية، بطبيعتها القائمة على الاكتشاف والتجربة، تُحوّل الذاكرة من فعل حفظ إلى ممارسة تفاعلية. وقد أسهمت الجلسات المصاحبة للمؤتمر في تعميق هذا الفهم، ومن بينها طرح الدكتورة حنان مكي، التي أكدت أن القصص المصورة والأنمي والألعاب الرقمية تمثل وسائط ثقافية فاعلة في التعلم والتواصل الاجتماعي، لا مجرد أدوات للترفيه. كما استحضرت نماذج لألعاب سعودية استلهمت الثقافة المحلية، من بينها لعبة AzoomaEscape، التي توظف عناصر من البيئة السعودية داخل تجربة قائمة على الاستكشاف وحل الألغاز، بما يحوّل التراث إلى فضاء معرفي يُمارَس ويُختبر. ويكشف هذا النموذج عن حقيقة جوهرية كثيرًا ما تُغفل في النقاش الثقافي، وهي أن الرسائل الثقافية التي تمر عبر الصناعات الإبداعية تكون أكثر رسوخًا وتأثيرًا من تلك التي تُقدَّم في سياقات تعليمية مباشرة. فبحسب نظرية النقل السردي، عندما ينغمس الأفراد في تجربة سردية أو إبداعية، ينتقلون ذهنيًا وعاطفيًا إلى عالمها، ما يعزّز التركيز ويقلّل المقاومة الإدراكية، ويزيد من تقبّل الرسائل الكامنة فيها. ووفقًا لما توصّل إليه Green وBrock، فإن هذا الانغماس يحوّل المعلومة من محتوى معرفي مجرد إلى تجربة معاشه تُخزَّن في الذاكرة طويلة المدى بدرجة أعلى، وهو ما يفسّر تفوّق الصناعات الإبداعية كحاضنة لترسيخ الموروث والقيم الثقافية. وهكذا، تتشكّل اليوم ذاكرة ثقافية سعودية جديدة، لا تقوم على التلقين أو الشرح، بل على التجربة والمتعة. ذاكرة تنبع من قلب الاتصال الثقافي، وتتغذى من الصناعات الإبداعية، وتمتلك قدرة حقيقية على الاستمرار، وعلى حمل الهوية السعودية بثقة نحو المستقبل.