غادة المقبل وخلود الظاهري.. بين التمكين وتوظيف الذكاء الاصطناعي من التسلية العابرة إلى صناعة هوية سعودية رقمية رفيف كلنتن وإنعام باناجه.. جوائز دولية تروي حكايات طموح لا ينتهي حنان مكي.. باحثة حوّلت الشغف إلى مختبر للإبداع لم تعد صناعة الألعاب الإلكترونية مجرد مساحة ترفيهية يهرب إليها الشباب من ضغوط الحياة اليومية، أو قطاع اقتصادي يضخ المليارات في أسواق التكنولوجيا العالمية، بل أصبحت مرآة تعكس تحولات المجتمعات وثقافاتها، وأداة تعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والآلة، وبين التعليم والفن، وبين الهوية والحداثة. هذه الصناعة التي وُلدت قبل عقود كألعاب بسيطة تعتمد على الحركة والصورة، تحولت اليوم إلى عوالم افتراضية متكاملة، يتداخل فيها الذكاء الاصطناعي مع تقنيات الواقع المعزز، وتندمج فيها الموسيقى مع الفنون البصرية، وتتسع لتحتضن السرد القصصي والتجارب الإنسانية في آنٍ واحد. لم يعد اللاعب متلقيًا سلبيًا، بل صار بطلًا مشاركًا، يُعيد صياغة الأحداث ويؤثر في مسار الحكاية، في تجربة تتجاوز حدود الترفيه إلى فضاء ثقافي وتربوي وعلاجي أيضًا. في هذا السياق العالمي المتسارع، برزت المملكة كأرض واعدة لصناعة الألعاب الرقمية، مستفيدة من رؤية 2030 التي جعلت من الاقتصاد الرقمي محورًا استراتيجيًا للمستقبل، ومن الاستثمار في الصناعات الإبداعية أولوية وطنية. فبينما كانت هذه الصناعة لعقود حكراً على مراكز تقنية في أميركا أو شرق آسيا، بدأت الرياضوجدة والدمام تتحول إلى محاضن للمواهب، وحاضنات للمشاريع، وساحات للابتكار. ومع هذا الانفتاح، لم يكن لافتًا فقط حجم الاستثمارات أو سرعة نمو السوق المحلية، بل الحضور القوي للمرأة السعودية، التي لم تدخل المجال بخطوات خجولة أو مترددة، وإنما اقتحمته بجرأة، لتصوغ فيه قصص نجاح عالمية، وتثبت أن المرأة ليست مجرد مشاركة رمزية، بل قائدة وصانعة قرار وصوت إبداعي مسموع. ما يميز هذه التجربة أن السعوديات اللواتي برزن في عالم الألعاب الرقمية لم يأتين من مسار واحد، بل من خلفيات أكاديمية وفنية وتقنية متباينة؛ فمنهن الباحثة الأكاديمية التي جعلت من اللعبة أداة للمعرفة، والمبدعة التي حملت تراثها وهويتها إلى الفضاء الافتراضي، والمصممة التي حوّلت الفن إلى لغة تفاعلية، والمنظمة التي أسست منصات لتمكين الأخريات، والباحثة التي دمجت الذكاء الاصطناعي بالتربية والثقافة. قصصهن تؤكد أن اللعبة في أيدٍ سعودية لم تعد مجرد وسيلة للمتعة، بل مشروعًا وطنيًا يحمل هوية، ويصنع أثرًا، ويُحاكي طموحات أمة بأكملها. البحث الأكاديمي والتطبيقي برز اسم الدكتورة حنان مكي بوصفها واحدة من الرائدات في هذا المجال، فهي لم تتعامل مع الألعاب باعتبارها منتجا استهلاكيا، بل انطلقت منها نحو أفق بحثي وإبداعي واسع. مكي الحاصلة على الدكتوراه في ألعاب الفيديو من جامعة غلاسكو، والماجستير في التصميم الابتكاري من جامعة دي مونتفورت في بريطانيا، أسست لنفسها مسارًا يجمع بين الهندسة البرمجية والتصميم الجرافيكي والسرد التفاعلي. من خلال منصبها كمديرة لبرنامج الألعاب في الأكاديمية الرقمية السعودية التابعة لوزارة الاتصالات وتقنية المعلومات، قادت جهودًا لصناعة جيل سعودي جديد في مجال الألعاب الرقمية. ولم تقف عند الجانب الأكاديمي، بل أسست استوديو "قنديل" الذي قدّم ألعابًا تحمل بُعدًا ثقافيًا وإنسانيًا مثل قطار الحجاز: قصيدة محتها الأيام وسراب: مدينة تحت الرمال، الأخيرة فازت بجائزة أفضل لعبة واعدة في مؤتمر Leap 2022. حنان مكي أصبحت أيقونة سعودية، وامتد تأثيرها إلى العالم من خلال صفتها "سفيرة المرأة في الألعاب" بالمملكة المتحدة عبر منظمة Women in Games. حلم تُرجم إلى جوائز عالمية على الضفة الأخرى، سارت الشابة رفيف كلنتن بخطوات مفعمة بالشغف، لتصبح إحدى أبرز الأسماء السعودية على الساحة العالمية في تصميم الألعاب السردية. انطلقت من جامعة عفت بجدة، حيث درست علوم الحاسب، وهناك لامست عالم التطوير عبر محركات مثل Unity. بعد ثلاث سنوات من العمل في تقنيات الواقع المعزز والافتراضي، حصلت على منحة من نيوم لإكمال الماجستير في تصميم الألعاب ببريطانيا. قدّمت مشروع تخرجها Eros Xavier's Love Solutions، الذي حصد جائزة BAFTA 2023 كأول سعودية تحقق هذا الإنجاز. لم يتوقف طموحها عند هذا الحد، بل اختيرت ضمن قائمة "30 تحت الثلاثين" لمجلة MCV/DEVELOP البريطانية، وحصلت على جائزة Ensemble من مهرجان لندن للألعاب، ثم عادت في العام التالي لتضع بصمتها في لعبة There Was A Home التي فازت بجائزة BAFTA للطلاب عام 2024. رفيف لم تنشغل فقط بمسارها الشخصي، بل شاركت كحكم في برامج ابتكار مثل "الحلول الإبداعية" بمركز إثراء، لتفتح الباب أمام الجيل الجديد. الفن في خدمة السرد التفاعلي أما إنعام باناجه فقد حملت خلفيتها الأكاديمية في التصميم الجرافيكي إلى فضاء الألعاب، مدفوعة بشغف بالفنون البصرية والهوية الثقافية. بعد حصولها على منحة من نيوم، درست الماجستير في تصميم الألعاب بالمملكة المتحدة، وهناك أنجزت مشروعها الأبرز: لعبة الواقع الافتراضي النول المخفي. اللعبة تقود اللاعبين إلى مدينة مستقبلية لاكتشاف نول غامض يمثل بوابة للتراث الإنساني، حيث يستعيدون عناصر ثقافية مفقودة عبر الألغاز التفاعلية. المشروع بلغ نهائيات برنامج "الحلول الإبداعية" في مركز إثراء، ولفت الأنظار لأنه جمع بين البعد الفني والسردي من جهة، وروح الفريق العائلي من جهة أخرى، إذ شاركتها ابنتها أروى الهوساوي (19 عامًا) في التصميم، والمبرمج براء صديق في تطوير اللعبة. باناجه تؤمن أن الألعاب يمكن أن تكون وسيلة للتعلم الثقافي وتبادل المعرفة، وأنها ليست مجرد ترفيه عابر. بناء البنية التحتية النسائية للألعاب لم تقتصر الريادة على الجانب الفني والأكاديمي، بل امتدت إلى التنظيم والتمكين، وهنا يبرز اسم غادة المقبل التي دخلت عالم الألعاب من زاوية مختلفة. درست الإعلام والعلوم السياسية، لكنها رأت عام 2012 أن الفتيات السعوديات بحاجة إلى منصة خاصة بهن. أطلقت مؤسسة GCON، التي استقطبت ثلاثة آلاف مشاركة في أول فعالياتها، مثبتة أن المرأة السعودية حاضرة بقوة في هذا القطاع. اليوم، تشغل المقبل منصب المديرة التنفيذية لGCON، إلى جانب عملها في Nine66 التابعة لمجموعة Savvy Games Group. عبر هذه الأدوار، تساهم في بناء منظومة استثمارية ضخمة تعكس رؤية 2030 لجعل الرياض مركزًا عالميًا لصناعة الألعاب. المقبل تعاونت مع شركات عالمية كبرى مثل ThatGameCompany، كما عملت في مشروعات اجتماعية محلية، وتؤكد أن هدفها هو تمكين المرأة السعودية لتكون مطوّرة ولاعبة وصانعة قرار في هذه الصناعة العالمية. بين التربية والذكاء الاصطناعي وأخيرًا، يبرز اسم خلود الظاهري كمطورة وباحثة سعودية في مجال الذكاء الاصطناعي والألعاب. رؤيتها تنطلق من إيمانها بأن الألعاب ليست مجرد وسيلة للترفيه، بل أداة تربوية وثقافية قادرة على حماية الأطفال وتعزيز قيمهم. درست الظاهري المخاطر الخفية في بعض الألعاب المفتوحة مثل Roblox، وقدمت تحذيرات من تهديداتها السلوكية، لكنها لم تتوقف عند حدود التحذير، بل طرحت بدائل عملية عبر بناء ألعاب ذكية تحمل رسائل تعليمية وثقافية. اليوم تعمل على مشروع تقني متقدم يدمج الذكاء الاصطناعي التوليدي في صناعة الألعاب، في إطار مفتوح المصدر يتيح للمطورين بناء محتوى إبداعي متجدد. حضورها في الإعلام يعكس وعيها برسالة تتجاوز الشاشة، لتصنع بيئة رقمية محفزة وآمنة في الوقت نفسه. صناعة سعودية بهوية نسائية بهذه المسارات المختلفة، من البحث الأكاديمي إلى الجوائز العالمية، ومن السرد التفاعلي إلى البنية التحتية، ومن التربية إلى الذكاء الاصطناعي، تشكّل حنان مكي ورفيف كلنتن وإنعام باناجه وغادة المقبل وخلود الظاهري لوحة متكاملة تعكس حضور المرأة السعودية في صناعة الألعاب الرقمية. لم يعد الأمر مشاركة رمزية أو خطوة خجولة، بل تحول إلى ريادة حقيقية تصنع تأثيرًا عالميًا. إنها قصص تُروى بفخر، تؤكد أن المرأة السعودية لم تدخل المجال من الهامش، بل وقفت في الصدارة، لتعيد صياغة واحدة من أعقد الصناعات الإبداعية في العالم، وتجعلها مساحة تُبنى فيها الثقافة والهوية بقدر ما تُصنع فيها المتعة والترفيه. غادة المقبل الدكتورة حنان مكي رفيف كلنتن إنعام باناجه