الرياضة لا تستهلك، بل تُعيد إنتاج الحياة الاستثمار الرياضي أحد أدوات رفع جودة الحياة كل عنصر في سلسلة القيمة الرياضية يمكن أن يتحوّل إلى فرصة ربحية اليابان التي استخدمت أكثر من 98 ٪ من مواد البناء المعاد تدويرها في الملعب الأولمبي في السنوات الأخيرة، لم تعد الرياضة مجرّد نشاط تنافسي أو وسيلة ترفيه، بل تحوّلت إلى رافد اقتصادي ضخم وصناعة قائمة بذاتها، تتقاطع فيها رؤوس الأموال مع السياسات العامة والاستدامة البيئية. ومع تصاعد الحراك الرياضي الذي تشهده المملكة العربية السعودية، تبرز اليوم فكرة أكثر عمقًا واستدامة: كيف يمكن أن يصبح الاستثمار الرياضي جزءًا من الاقتصاد الدائري، بحيث لا تكون الملاعب والمرافق مجرد مواقع للمتعة، بل محركات اقتصادية تدور فيها الموارد باستمرار دون هدر؟ إن مفهوم الاقتصاد الدائري Circular Economy يقوم على فكرة أن الموارد لا تُستهلك وتنتهي، بل يعاد استخدامها وتدويرها في دورة إنتاج مستدامة. وإذا كانت الصناعة والطاقة والزراعة قد تبنّت هذا النهج عالميًا، فإن الوقت قد حان لتبني الرياضة لهذا المفهوم كركيزة اقتصادية جديدة. فالملعب الذي يُشيّد اليوم لا ينبغي أن يكون عبئًا بيئيًا، بل نموذجًا هندسيًا واقتصاديًا يوفّر الطاقة، ويُعيد استخدام المياه، ويولّد عوائد من إدارة النفايات والموارد. في المملكة، حيث تشهد مشاريع كبرى مثل نيوم والقدية ومشروع البحر الأحمر بُعدًا بيئيًا واستثماريًا متقدّمًا، من الطبيعي أن تنتقل هذه الفلسفة إلى قطاع الرياضة. يمكن تخيّل "الملعب الأخضر" ليس فقط باللون والعشب، بل كمفهوم متكامل: مواد بناء صديقة للبيئة، طاقة متجددة لتشغيل الإضاءة والتبريد، نظم ذكية لإدارة المياه والنفايات، وسلسلة توريد تعتمد على إعادة التدوير المحلي. في النموذج الاقتصادي الحديث، أصبحت المرافق الرياضية جزءًا من منظومة اقتصادية متكاملة، فالطاقة التي يستهلكها الملعب يمكن أن تُنتج محليًا عبر محطات شمسية، والمياه التي تُستخدم لريّ الملاعب يمكن إعادة تدويرها باستخدام تكنولوجيا المعالجة البيئية. هذه الحلول لا توفر المال فقط، بل تصنع Brand Value جديدًا للأندية والمنشآت. العالم اليوم لا ينظر فقط إلى من فاز في المباراة، بل إلى من يستثمر بطريقة مستدامة. تخيل أن نرى قريبًا شعار "صُنع في السعودية" مطبوعًا على مضخات إعادة التدوير في الملاعب، أو أن تُدار منشآت رياضية عبر شركات سعودية متخصصة في الطاقة المتجددة. هذا هو The new game of sustainability — اللعبة الجديدة التي تجمع بين الرياضة والصناعة والاقتصاد الأخضر في آنٍ واحد. على المستوى الاستثماري، يفتح الاقتصاد الدائري أبوابًا جديدة أمام القطاع الخاص. فكل عنصر في سلسلة القيمة الرياضية يمكن أن يتحوّل إلى فرصة ربحية: شركات المقاولات البيئية، مصانع العشب الصناعي القابل لإعادة التدوير، أنظمة الإنارة الموفّرة للطاقة، وحتى تصميم المدرجات من مواد مُعاد تدويرها. وهنا يمكن للهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة، وصندوق الاستثمارات العامة، والقطاع الصناعي المحلي أن يتكاملوا لبناء صناعة رياضية مستدامة قادرة على المنافسة العالمية. ولا يمكن تجاهل البُعد الاجتماعي لهذا التحول، فعندما تُبنى منشأة رياضية تراعي البيئة، فهي لا تخدم الرياضي فقط، بل تخدم المجتمع بأكمله، وتغرس ثقافة جديدة تقول إن "الرياضة لا تستهلك، بل تُعيد إنتاج الحياة". ومن هنا، يصبح الاستثمار الرياضي أحد أدوات رفع جودة الحياة وتحقيق أهداف Vision 2030 من زاوية مختلفة، تتجاوز بناء البنية التحتية إلى بناء وعي مجتمعي واقتصادي مستدام. لكن لكي تنجح هذه الرؤية، لا بد من إطار تنظيمي وتشريعي واضح. فكما نُظمت الاستثمارات النفطية والصناعية في عقود ماضية، يجب اليوم أن تُسن أنظمة تحفّز المستثمرين على تبنّي نماذج الاقتصاد الدائري في الرياضة: إعفاءات ضريبية للمشاريع الخضراء، تصنيف بيئي للمنشآت، وتقييم شامل لأثر كل مشروع رياضي على البيئة والاقتصاد المحلي. في التجارب العالمية، سبقت بعض الدول هذا الاتجاه، مثل اليابان التي استخدمت أكثر من 98٪ من مواد البناء المعاد تدويرها في الملعب الأولمبي بطوكيو، والمملكة المتحدة التي خفّضت استهلاك الطاقة بنسبة 40٪ في ملاعب Tottenham Hotspur Stadium عبر أنظمة ذكية لإدارة الإنارة والتبريد. أما السعودية، فهي مؤهلة لتجاوز تلك التجارب، لأن التنمية المستدامة أصبحت جزءًا من نسيج رؤيتها الوطنية، لا مجرد مبادرة بيئية. وعندما تتكامل هذه الرؤية مع الطموح الرياضي للمملكة، يمكن أن تولد صناعة جديدة بالكامل - صناعة نسميها "الصناعة الرياضية الخضراء". هذه الصناعة قد تشمل إنتاج الأدوات والمعدات الرياضية المستدامة محليًا، أو تطوير حلول رقمية لإدارة استهلاك الطاقة في الأندية والملاعب، أو حتى تصدير المعرفة في مجال التصميم البيئي للمنشآت الرياضية إلى الخارج. The future of sports investment is circular - هذا ليس شعارًا ترويجيًا بل توجه عالمي جديد. فالعالم يتجه نحو اقتصاد يحترم موارده، والرياضة يمكن أن تكون الساحة الأوضح لتجسيد هذا التحول. إنها ليست منافسة في الملعب فحسب، بل سباق في المسؤولية، سباق من أجل بقاء الموارد والفرص. من هنا، يبرز دور المملكة كقائد إقليمي في صياغة نموذج اقتصادي رياضي مستدام، يستند إلى القيم البيئية، ويتقاطع مع مستهدفات النمو الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل. وعندما يجتمع الاستثمار + الرياضة + البيئة في معادلة واحدة، فالمحصلة تكون تنمية متكاملة تحفظ الإنسان والمكان، وتُعيد تعريف معنى «اللعب النظيف» - ليس فقط على مستوى السلوك الرياضي، بل على مستوى الاقتصاد ذاته. *رئيس نادي الدرعية السابق. استاد ساحل القدية نمط جديد لتصميم الملاعب السعودية الملعب الأولمبي في طوكيو ملعب توتنهام د. خالد الحبشان*