يشكل نظام الإبلاغ الداخلي عن المخالفات، أو ما يعرف بأنظمة حماية المبلغين (whistleblowing)، والمعمول به في كثير من التجارب الدولية لتعزيز الامتثال لمتطلبات النزاهة والعدالة والشفافية والمساءلة؛ هذا النظام يتسق في مبادئه وغاياته مع ما تشهده بلادنا العزيزة في هذا العهد المبارك من تحولات وإصلاحات عميقة تهدف إلى تعزيز أدوار الجهات الرقابية وتطوير قنوات التبليغ عن الفساد؛ وعلى هذا الأساس، ينبغي على الجهة المختصة بمكافحة الفساد أن تلزم الجهات الخاضعة لرقابتها بوضع نظام داخلي فعال للإبلاغ عن الممارسات تنطوي على شبهة فساد، باعتباره تأطير لسياسات الدولة -أعزها الله- الرامية لصون المال العام، وترسيخ مبادئ الشفافية واشتراطات الحوكمة والنزاهة المؤسسية؛ فوجود منظومة داخلية وفعالة للإبلاغ عن المخالفات يتسق مع أهداف "مدونة السلوك الوظيفي وأخلاقيات الوظيفة العامة"، ويساهم في كشف التجاوزات مبكراً قبل أن تتفاقم آثارها على المال العام وكفاءة نزاهة الجهات الحكومية وثقة المجتمع في مؤسساته، كما يشجع منسوبي الجهات على أداء دورهم الوطني كشركاء في حماية النزاهة، لا مجرد منفذين للتعليمات. أهمية هذا النظام لا تتوقف عند كونه أداة لكشف حالات الفساد مبكراً، بل تتعدى ذلك إلى كونه مرآة تعكس مستوى جدية ونزاهة الإدارة التنفيذية العليا، واستعدادها لتحمل تبعات الشفافية والرقابة الذاتية؛ فحين تعتمد جهة حكومية نظاماً داخلياً ومؤسسياً للإبلاغ عن المخالفات، بمسارات واضحة وسرية محمية، فهي تبعث برسالة ضمنية للكافة مفادها أنها تثق في أنظمتها الداخلية ومستعدة للاستماع إلى صوت موظفيها، وأن حماية السمعة المؤسسية الحقيقية لا تكون بإخفاء الأخطاء بل بمعالجتها؛ كما أن وجود مثل هذا النظام يطمئن العاملين والمستفيدين والعملاء إلى أن شكاواهم لن تهمش، وأن هناك قناة داخلية منظمة يمكن من خلالها الإبلاغ عن أي تلاعب أو مصالح خفية أو إساءة استغلال للسلطة، بما يرسخ مبدأ المساواة أمام الأنظمة ويحد من الثقافة السلبية القائمة على اللامبالاة أو الخوف أو الانتقام؛ حيث يعد ذلك النظام مؤشراً على نضج نزاهة البيئة الوظيفية وصلابة رقابتها الداخلية وتكامل أعمال حوكمتها مع الأطر الوطنية لمكافحة الفساد. ولعل ما يبرز أهمية وحساسية هذا الموضوع أن تبني مثل هذا النظام لا يكون دائماً محل ترحيب لدى بعض المسؤولين؛ ويمكن تصور -كحالة حقيقية- موظف واعٍ في إحدى الجهات، قدم مقترحاً بإنشاء نظام داخلي للإبلاغ عن المخالفات ويتضمن قنوات سرية، وآليات للتحقق، وضوابط لحماية المبلغين؛ ومع ذلك واجه مقاومة شديدة من بعض القيادات ممن اعتادوا على تمرير مصالح خاصة وتجاوز ضوابط التعاقد والتوظيف والإنفاق، مثل هذه المقاومة تكشف أن غياب النظام يخدم أحياناً من يستفيد من وجود مساحة "الظل التنظيمي" بعيداً عن أعين الرقابة؛ في المقابل، تشريعات مكافحة الفساد توفر الضمانات النظامية لمن يقدم بلاغاً للجهات الرقابية بحسن نية ويسهم في كشف جريمة فساد، فمن باب أولي أن توفر غطاء الحماية القانونية لمن يبادر باقتراح إنشاء نظام داخلي للإبلاغ - كما في الحالة السابقة - ضد أي إجراء انتقامي وظيفي أو مهني، بحيث لا يتحول سعيه الوطني للإصلاح إلى سبب لاستهدافه بتشويه السمعة أو التهميش أو العزل، بدل أن ينظر إلى مبادرته بأنها امتداد لما يتضمنه "نظام حماية المبلغين والشهود والخبراء والضحايا" من التزامات وضمانات تحظر أي إجراء انتقامي وظيفي أو مهني بحقه.