كان الأبناء المسرفون يلحّون على والدهم منذ سنوات أن يفتح الصندوق الصغير المخفي تحت سريره ليُريهم ما بداخله، لكنه لم يكن يسمح لأحد حتى بلمسه. وبعد وفاته، اجتمعوا حوله وفتحوه، فإذا بالمفاجأة تكشف أنه لا يحمل مالا ولا ذهبا ولا وثائق مهمة؛ بل وجدوا مكنسة صغيرة، ومنديلا، وورقة كتب فيها: "لم أترك لكم ذهباً ولا مالاً، وإنما تركت لكم درساً واحداً: من لا يضبط شهوته في الشراء، لن يضبط حياته ولو ملك الدنيا". كانت الرسالة بسيطة بما يكفي لتظل في الذاكرة، وعميقة بما يكفي لتبقى عبرة. فقدرة الإنسان على الامتناع عن غير الضروري هي برهان على قدرته في إدارة حياته. تحوّل الإسراف في بعض المجتمعات إلى عادة تتخفّى وراء مظاهر الفخامة والتفاخر، حتى غدت "الفشخرة" معيارًا للظهور الاجتماعي تُقاس به قيمة الشخص. وأصبح اللهاث خلف الماركات والمنتجات الجديدة محاولة لملء فراغ نفسي أو إثبات مكانة. وتوسّعت المشتريات للهدايا والمناسبات والسفر والمقتنيات والمكمّلات، إلى أن فقد البعض قدرتهم على الموازنة بين الدخل والمصروفات. وكلما ضاق الوعي اتّسع الاستعراض، وكلما تضخّمت الرغبات تراجعت القدرة على التفريق بين الحاجة والاندفاع. تكشف التجارب الأسرية أن المشكلة لا تكمن دائما في قلة الموارد، بل في طريقة إدارة الدخل، فتتكرر الأخطاء الشرائية نفسها وعندئذ يتبخر الرصيد قبل نهاية الشهر، وتشير تحليلات اجتماعية إلى أن نسبة كبيرة من الأسر الحضرية تفقد مدخراتها بسرعة بسبب قرارات استهلاكية تُتخذ بدافع الرغبة وليس الحاجة، مما يؤدي إلى نزاعات وخصومات أسرية متكررة. وتتفاقم المشكلة عندما تنهال على الأفراد الفواتير المستحقة دون رصيد كافي، فتزداد الضغوط المالية وتتعقد القدرة على التحكم بالصرف. الأغرب أن التقنية، التي جاءت لتسهيل حياتنا، تحوّلت في كثير من البيوت إلى دافع صامت يدفع إلى الإنفاق قبل التفكير، ويغذّي الشهوات ويُهمش الحاجات. وأصبح الهاتف اليوم أشبه بصندوق مفتوح على مدار الساعة؛ بضغطة زر يصل المندوب إلى الباب مرة بعد أخرى، محمّلاً بمشتريات ومأكولات لا تتوافق مع احتياجاتنا الحقيقية، وكأن المطبخ المليء بالأطعمة الصحية والمتنوعة لا وجود له. وتحوّلت بعض البيوت إلى محطات لوصول الطرود اليومية، تُستقبل فيها مشتريات اندفاعية لا تتوقف!. تتسلل تطبيقات التسوق بذكاء برمجي إلى رغباتنا وأوقات فراغنا، فتقدّم عروضاً وتخفيضات مصممة لتشكيل قراراتنا الشرائية من دون أن نشعر. لذلك أصبح الوعي بالاستهلاك ضرورة تحمي الإنسان من الانجراف، فمجرد تحديد قائمة للاحتياجات وتأجيل شراء ما هو غير ضروري ليوم واحد يقلص نصف المشتريات المزاجية. وعلى مستوى أعمق، لا يقتصر أثر كبح الإسراف على حماية الميزانية الأسرية فقط، بل ينظم علاقة الإنسان بالنعمة. فكل من لا يتعلم الوقوف عند حدود حاجته وضبط شهوة الشراء يبقى عرضة لأزمات مالية تتزايد مع الأيام. وفي جوهر الحكاية، يكشف الصندوق القديم درساً حكيماً: الإنسان يميل بطبيعته إلى طلب المزيد، لكنه يحتاج إلى عقل يرى القيمة قبل الثمن، والحاجة قبل الشهوة، والاستقرار قبل الاستعراض. ولعل أول خطوة لمواجهة هذه الشهوات الرقمية تبدأ بقرار بسيط وصادق: أن نقول ولو مرة واحدة: "توقّف!". وفي ختام المعنى، يذكّرنا القرآن بحدود النعمة: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾، ويقول النبي عليه السلام: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير سرف ولا مخيلة".