نعتذر لأبي تمام عن إبدال «من» ب«في»؛ فهو كان يصف السيف المعتصمي، ونحن هنا نصف السيف السعودي. ابتداءً، أتقدم بخالص الشكر والامتنان للأستاذ الجليل محمد بن عبدالله السيف على هديته الثمينة: كتاب «بين السفارة والوزارة»، لم تكن هذه الهدية مجرد كتاب يزين رفوف المكتبة، بل دعوة كريمة لرحلة فكرية ممتعة عبر عشرة أبواب تحلق بنا في عوالم الإنجاز الوطني، والتجارب الإنسانية الغنية التي تلامس العقل والوجدان معًا. صحبني الكتاب أيامًا تلو الأيام، فما اكتفيت بقراءته مرة واحدة، بل عدت إليه مرات، وجدت فيه عملًا توثيقيًا يجمع بين دقة البحث العلمي وجمال السرد، فأصبح كل فصل منه نافذة منفردة تطل على تاريخ هذا الوطن الشامخ. ففي صفحاته الأولى نلتقي بعبدالعزيز بن زيد، دبلوماسي الصحراء الداهية، ومفاوضات حصار حائل شابًا، والمنهوبات بين قبائل نجد وشرق الأردن، ورد الاعتبار الكبير، و«اجتماع معان»، وبين «الوساقة» وإبل نوري الشعلان، وتشكيل فوج لفلسطين، ولجوء أحمد الشيباني، والراديو الأول في حائل، وعلاج مرضى السل السعوديين في بيروت، ورعاية الأيتام والعجزة في دمشق، وأنابيب سقيا لبده. ثم نجلس في «مجلس الكرخ» الأشهر مع عبدالعزيز الصقير، نستمع إلى القصائد النبطية، ونعتبر من قصة «زُرق الظهور»، ونبحر في ماجريات البلاد، وقلق الإنجليز من معرفته بتفاصيل المجتمع العراقي، وإشادة إبراهيم بن معمر، وجلسات شاطئ جدة، ومفاوضات روضة التنهات مع حمزة غوث، ودوره في تشجيع النجديين للعمل في السعودية، ونتعجب من كرمه الذائع. ونقف في «سوق العنبرية» مع محمد المرشد الزغيبي لنتذوق مرارة اليتم وعزيمة البطل، وأحوال خفر السواحل وحارة المظلوم، وقصة حمد الجاسر في شارع عماد الدين، ومراسلات إبراهيم الحسون، ثم نرى كيف قلب الملك عبدالعزيز حياته بجملة واحدة، وكيف فك شيفرة الرد الدبلوماسي على غضب جمال عبد الناصر، وعن قضاء حوائج الناس، ودوره الواضح في استقلال الكويت، وتجميد حسابه في البنك الأهلي المصري، وجلسة «أبو مرشد»، وبحيرات جنيف. ونرتحل من حريملاء إلى حرب اليمن مع سعود الدغيثر، نقرأ تقرير مصطفى حافظ الجريء، ونحضر استقباله الأنيق لطه حسين، وأيام كهرباء الظهران، ورحلة الإسكندرية بمعية المؤسس، ودوره في كبح جماح التعصب في لبنان، ومماحكات فندق سان جورج، وفيلم «هذه بلادنا»، ونعيش معه آخر لقاء للملك سعود. ونقرأ عن عبد الله الملحوق ومقاله الجريء عن «الإقطاع»، وريادته للطباعة والنشر في الشرقية، وإنقاذه لفتاة النيل، وشفاعته لعلي النعيمي، ونرتعب في «أيلول الأسود» في الخرطوم، واختطاف الوزراء ونقلهم إلى الجزائر، ومحاولة اغتياله في اليونان. ثم نسترجع مع عبدالرحمن أبا الخيل قصصًا مختلفة: مطاردة الحسبة له ولرفاقه لأنهم يذاكرون الإنجليزية في الحرم، ومكتبة الثقافة في باب السلام، وجبل هندي، والباخرة تالودي، ومقال «الروح الشعبية » الزاخر، وإضراب عمال أرامكو، ونظام العمل والتأمينات والسلك المشيخي، ونعرف «جماعة الأمناء»، وجامعة فؤاد، ونقف على ولادة «الفترة الذهبية» لوزارة العمل. ونسبر أرقى محافل الدبلوماسية مع سمير الشهابي، نفهم ظروف زيارة الملك فيصل لقبر أتاتورك، وديميرل في استقبال الفهد، ومعية جميل البارودي، وهداياه للشيخ ابن باز، وتأسيس المجموعة العربية في الأممالمتحدة، والمؤسسة الإسلامية في جنيف، ومزرعة البرتغال، وشبابيك جدة، ونفرح بانضمام الصومال للجامعة العربية، ونستلهم أناقته و«الإتيكيت» الدبلوماسي. ونقلب صفحات طفولة جميل الحجيلان بين «الثلجة الكبيرة» و«إسطبل الخيل» في دير الزور، وتشابه الأقدار مع ابن عمه فيصل، ونسمع صوت المرأة السعودية لأول مرة في الإذاعة، ونشهد إطلاق أول بث تلفزيوني، وقصة برنامج الطنطاوي، وعن تأثره بتوفيق الحكيم، وطائرة يوسف ياسين في العزاء، وإطلالة وجه الملكة ثريا، وأول سفير في الدبلوماسية الكويتية، وإطلالة فيروز على السعوديين. ونرى مع حسن المشاري كيف ولد «معهد الإدارة»، ونصائح مؤسسة فورد، وكيف انبثقت مشروعات تحلية المياه العملاقة، وقصة حكومة الدكاترة، والبنك الفرنسي، وسعودة الوظائف النوعية، ومكتبة البنات في الرياض، وأصدقاء المنصب. ونختتم الرحلة مع فهد الدغيثر في أول تعداد سكاني في تاريخ المملكة، ونفهم لماذا وصف معهده ب«القلعة الماسونية»، ونستلهم إصراره حتى على تقليم شجر المعهد كرسالة إصلاح، والرأس الحاسر، وإصلاح الجمارك، والشركة العقارية، وتعليم أبنائه على نفقته في زمن البعثات الحكومية. في جوهر هذا العمل تتجلى جمالية كتابة السيرة الذاتية كفن راقٍ، ومهمة إنسانية نبيلة. محمد السيف، بقلمه الرشيق، يمزج ببراعة بين ريشة الفنان ومبضع الجراح، لا يكتفي بتوثيق الإنجازات، بل يغوص في أعماق الشخصيات، يكشف خفاياها الإنسانية، ويحلل مواقفها بموضوعية وتجرد. من «سيرتهم» إلى «عبد الله الطريقي: صخور النفط ورمال السياسة» وصولاً إلى «بين السفارة والوزارة» تتجلى – في أعمال السيف – الجودة العالية والتوثيق الدقيق. وبصفته رئيس تحرير «المجلة العربية» ورئيس دار «جداول»، يظل حارسًا أمينًا للسردية الوطنية، يحول الوثائق إلى قصص حية تسكن الوجدان. أجدد شكري على هذه الهدية – الفرصة – وعلى جهوده المباركة في تدوين ذكريات الوطن. «بين السفارة والوزارة» ليس مجرد كتاب، بل جسر يربط الماضي بالحاضر، ودعوة للأجيال المقبلة كي تتأمل في قصص الكفاح والإنجاز، ومنارة ستظل تنير الدروب لسنوات مقبلة. وفي اعتقادي إن هذا الكتاب بمثابة دعوة عامة لجيلنا الحاضر أن يتعلم بجد ويعمل باجتهاد، لتكتب سيرته بنفس هذا الصدق النبيل وهذه الأناقة الرفيعة، وأن نُوقِن أن هذا الوطن العظيم بُني بأيدٍ سعودية آمنت أن التاريخ لا يكتبه الزمن وحده، بل يكتبه الإنسان حين يمسك القلم بضمير مستيقظ وذاكرة صادقة. بين السفارة والوزارة أحمد الفاضل