تواجه الدول الحديثة تحديات متزايدة في مجال الجرائم الاقتصادية، وفي مقدمتها جريمة غسل الأموال التي تُعد من أبرز المخاطر المؤثرة على استقرار الاقتصاد الوطني وثقة المستثمرين وسلامة الأسواق المالية. وفي هذا الإطار تبنت المملكة العربية السعودية نهجاً وطنياً متكاملاً لحماية اقتصادها، مستندة إلى إطار نظامي متطور، ورقابة مؤسسية فعالة، ورؤية قيادية تؤكد أن النزاهة والشفافية ركيزتان أساسيتان للتنمية المستدامة. شهد نظام مكافحة غسل الأموال في المملكة تطوراً نوعياً شمل تحديث التعريفات القانونية، وتوسيع نطاق الأفعال المجرّمة، ورفع مستوى الالتزام بإجراءات العناية الواجبة تجاه العملاء. كما تم تعزيز الإبلاغ عن المعاملات المشبوهة بما يتوافق مع معايير مجموعة العمل المالي (FATF)، الأمر الذي أسهم في تحصين القطاع المالي والحد من محاولات استغلاله في تمرير أموال غير مشروعة أو تمويل أنشطة غير قانونية. وتعمل الجهات الوطنية ضمن منظومة متكاملة تشمل الرقابة والتحليل والتحقيق. إذ تتولى وحدة التحريات المالية تحليل البلاغات ورصد الأنماط المشبوهة، ويشرف البنك المركزي السعودي على التزام المؤسسات المالية بالضوابط الرقابية، فيما تباشر النيابة العامة والجهات الأمنية التحقيق والضبط وتتبع الأطراف المتورطة. وتقوم هيئة الرقابة ومكافحة الفساد (نزاهة) بدور محوري في تعزيز النزاهة المالية ومتابعة التزام الجهات العامة بالشفافية والمساءلة، بما يدعم الجهود الوطنية الشاملة لمكافحة غسل الأموال وحماية المال العام. وتأتي هذه الجهود منسجمة مع توجهات القيادة الرشيدة التي جعلت حماية المال العام وتعزيز النزاهة إحدى أولوياتها الوطنية. وقد أكد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، هذا المبدأ بقوله: (لن ينجو أي شخص دخل في قضية فساد، سواء كان أميراً أو وزيراً أو أياً كان؛ كل من تتوفر عليه الأدلة الكافية سيحاسب). وعلى المستوى الدولي، عززت المملكة تعاونها مع مجموعة العمل المالي والجهات الدولية المعنية بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وشاركت في برامج التقييم والتبادل المعلوماتي، إدراكاً منها للطبيعة العابرة للحدود لهذه الجريمة. وأسهم هذا التعاون في رفع مستوى الثقة الدولية في متانة النظام المالي السعودي وترسيخ موقع المملكة كشريك موثوق في الجهود العالمية لمكافحة الجرائم المالية. كما تدرك المملكة أن مواجهة غسل الأموال مسؤولية مجتمعية، ولذلك تولي أهمية للتوعية عبر حملات إعلامية وبرامج تثقيفية تستهدف الأفراد وقطاع الأعمال، بهدف نشر الوعي بمخاطر غسل الأموال وآثارها، وتشجيع الإبلاغ عن أي معاملات مشبوهة. وفي سياق متصل، عملت المملكة على تطوير قدرات الكوادر العاملة في الجهات المالية والقضائية والرقابية، من خلال برامج تدريب متخصصة تواكب المستجدات الدولية وتُعزز فهم الأساليب الحديثة لغسل الأموال. ويأتي ذلك ضمن توجه شامل لرفع الاحترافية وتحقيق التكامل بين الجهات المنفذة للأنظمة. كما عززت المملكة معايير الحوكمة في القطاعين العام والخاص عبر تحسين أنظمة المشتريات، وتطوير آليات الرقابة، وتطبيق إجراءات تحد من استغلال الوظيفة العامة أو إساءة استخدام الموارد، وهو ما أسهم في ترسيخ بيئة أعمال أكثر موثوقية وجاذبية للمستثمرين. وتعمل المملكة وفق رؤية متوازنة تقوم على تحديث الأنظمة، وتعزيز كفاءة الجهات الرقابية، وتطوير التقنيات، ورفع الوعي المجتمعي، وتوسيع التعاون الدولي. وتشكل هذه العناصر منظومة متكاملة قادرة على مواجهة التحديات المتزايدة المرتبطة بغسل الأموال، وتؤسس لاقتصاد يقوم على الشفافية والاستدامة والانضباط المالي. وبذلك يتضح أن حماية النزاهة المالية ليست مجرد إجراء تنظيمي، بل خيار استراتيجي يعكس التزام الدولة ببناء اقتصاد قوي ومتنوع ومحصن من المخاطر، يقوم على ثقة المواطنين والمستثمرين، ويمهد لمرحلة تنموية أكثر استقراراً وازدهاراً. * مستشارة الحوكمة والامتثال