في مصنع حديث على أطراف الرياض، يقف مهندس سعودي شاب يراقب ذراعًا روبوتية تُجمّع مكوّنات معدنية دقيقة تُصدَّر إلى ثلاث قارات، مشهد كهذا لم يكن مألوفًا قبل سنوات قليلة، لكنه اليوم جزء من يوميات قطاع صناعي صاعد يعكس التحول الكبير الذي تعيشه المملكة، فالسعودية التي ارتبط اسمها لعقود بقوة الطاقة، تسير بخطا ثابتة نحو أن تصبح قوة إنتاج وصناعة تعتمد على التكنولوجيا والمعرفة وسلاسل الإمداد المتقدمة. جوهر هذا التحول ينبع من إدراك واضح مفاده أن الاقتصادات القادرة على المنافسة عالميًا ليست تلك التي تملك الموارد فحسب، بل تلك التي تبني منظومة صناعية قادرة على تحويل هذه الموارد إلى قيمة مضافة. ومن هنا جاء إطلاق برنامج "ندلب" كأكبر منصة وطنية لدمج الصناعة والتعدين والطاقة والخدمات اللوجستية في مشروع واحد، يهدف إلى تأسيس اقتصاد تفاوضي قوي، لا يكتفي بالاستيراد، بل ينتج ويصدّر ويبتكر. تشير بيانات وزارة الصناعة والثروة المعدنية إلى تجاوز عدد المصانع في المملكة 12 ألف مصنع مع مطلع 2025، فيما ارتفعت مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلي غير النفطي إلى نحو 13 %، وهي أعلى نسبة منذ سنوات، لكن الأرقام لا تكشف سوى جانب واحد من القصة، فالقصة الحقيقية تكمن في التحول العميق في طريقة التفكير: لم تعد الصناعة مجرد مصانع، بل مشروع دولة يربط بين التكنولوجيا، وسلاسل القيمة، والمعرفة، ورأس المال البشري. ويبرز قطاع المعادن بوصفه أحد أعمدة هذا التحول. فالسعودية تمتلك ثروة معدنية تُقدّر بأكثر من 5 تريليونات ريال تشمل النحاس والنيكل والليثيوم والمعادن الحرجة التي تزداد قيمتها في عصر السيارات الكهربائية والرقائق الإلكترونية والبطاريات، ومع توسع مشاريع التعدين والتحويل الصناعي، لا تكتفي المملكة باستخراج المعادن، بل تسعى إلى تصنيعها محليًا عبر شراكات عالمية، مما يضعها في قلب السباق العالمي على صناعات المستقبل. وفي موازاة ذلك، تتقدم الصناعات المتقدمة بخطا متسارعة. فقد بدأت المملكة الدخول في مجالات كانت يومًا حكرًا على القوى الصناعية الكبرى مثل الرقائق الإلكترونية وأنظمة التحكم الصناعية وتقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، كما أن مصانع البطاريات الكهربائية والهيدروجين الأخضر في نيوم تُشكل بداية لمرحلة جديدة تجعل المملكة لاعبًا رئيسيًا في الاقتصاد الأخضر. وتتكامل الصناعة مع استراتيجية وطنية ضخمة في الخدمات اللوجستية، تهدف إلى جعل المملكة مركزًا يصل بين ثلاث قارات، تطوير الموانئ والمطارات والمناطق الاقتصادية الخاصة لم يعد مجرد تحسين للبنية التحتية، بل جزء من رؤية تجعل التصدير نشاطًا يوميًا، لا حدثًا استثنائيًا، ومع دخول شركات عالمية لإنشاء خطوط إنتاج في الرياضوجدة والجبيل، أصبحت المملكة مقصدًا صناعيًا كاملًا، لا مجرد سوق استهلاكية. لكن أهم ما يميّز هذا التحول أنه يصنع ثقافة جديدة. فالشباب السعودي يدخل اليوم إلى الكليات التقنية والهندسية بروح مختلفة، ويرى في الصناعة مستقبلًا مهنيًا واستراتيجيًا. ومع توسع برامج التدريب والتمكين، تتشكل كوادر وطنية قادرة على قيادة التطوير والتشغيل والابتكار داخل المصانع المتقدمة. إن السعودية اليوم لا تبني منشآت صناعية فقط، بل تبني قدرة وطنية تضمن تنويع الاقتصاد وتحقيق الاستدامة وتقليل الاعتماد على التقلبات العالمية. ومع تداخل الصناعة والتقنية واللوجستيات، يقترب الاقتصاد السعودي من معادلة جديدة: اقتصاد ينتج أكثر مما يستهلك، ويبتكر أكثر مما يستورد. وفي النهاية؛ يمكن القول: إن المملكة في تحولها الصناعي لا تغيّر حجم اقتصادها فقط، بل تغيّر بنيته واتجاهه. من قوة الطاقة إلى قوة الإنتاج، ومن الاعتماد على الموارد إلى صناعة القيمة، تمضي السعودية نحو مستقبل صُنِع بإرادة واضحة ورؤية لا تتردد في تحويل الطموح إلى واقع.