ليس بالضرورة أن دلالة مفردة العمى تدل على العمى الحقيقي أو عدم الإبصار للعينين، ولا كذا البصيرة هي الأخرى تشير إلى الرؤية المجردة للعين، قد يرى الإنسان، لكنه لا يعقل تلك الرؤية ولا يدرك كنهها، وتظل الأشياء غائبة عن وعيه الحقيقي، ذلك الوعي الذي يستقر في القلب ويعقله الفؤاد، ومن هنا يظل الشخص يرى بعينيه ما حوله لكنه لا يعقل حقيقة وكنه معناه، ولا يعمل بصيرته في كل الظواهر والموجودات، والقرآن الكريم يشير إلى هذا المفهوم (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الحج 46، واستتباعاً لذلك فإن الإنسان لا يرتقي في وعيه إلا إذا أخذ البعد الوجودي بعين الاعتبار، لأن الوعي هو أمر إرادي، يجب أن يمارسه الإنسان، وليس هو أصلاً فيه، فالطفل يولد وهو قاصر تماماً عن هذا المفهوم، ولكن مع مرور الأيام نجده يرتقي في عملية وعي متتابع حتى يصل لمرحلة من الوعي التام التي تتعدى الوعي المباشر للعين المجردة الذي يمارسه الغالبية منا بشكل يومي، وهو أمر معتاد عند الكثير من الناس، والأهم في جانب الوعي أننا نتجاوز إلى أبعد من ذلك لنصل إلى مرحلة الوعي غير المباشر، وهذا ما أود أن أتحدث عنه في مقالتي هذه بعد أن اخترت هذا العنوان «العمى والبصيرة» في محاولة تفجير الوعي كعملية ذهنية مقترنة بفطنة واعية مع الحواس. إن الوعي عند بني الإنسان يتأثر بشكل مباشر من محيطه، فكلما زادت حالة التقرّي والنظر الواسع زادت مساحة المعرفة على مبدأ (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ). وهنا يأتي الخطاب كدعوة للتأمل بل الإغراق في التفكر للوصول إلى أعماق النفس وهي دعوة إلى إيقاظ الوعي غير المباشر أو المحسوس، فالعلاقة هنا علاقة طردية كما زاد التفكر وتجاوزت الوعي المجرد والمباشر، كلما زاد حضور الإنسان في الوعي غير المباشر، واتسعت الرؤية وأدرك أن النظر يكون من الجزئي إلى الكلي وعند ذلك تتأتى إلينا المعارف طواعية، وكما يقال: طريقة التفكير تحدد قيمة الفكرة وبالتالي تزيد حجم المكتسب المعرفي، ما يعني أن الإنسان عليه أن يطيل النظر والتفكير في استجابة ذهنية لاستدعاء الفكرة الشاردة ليتحقق لديك معنى العقل الواعي والفطن، وكذا هو الأمر ما يحدد لديك بُعدي الوعي المباشر، وقوة الوعي غير المباشر. علينا أن نبتعد عن الكسل الفلسفي للأشياء والظواهر، وأن نعيش هذا الفضاء الواسع بحالة من التأمل العميق وبكد الذاكرة لتصل إلينا جملة من المعارف وإلا سيظل كل شيء ساكناً ورتيباً كما هو، فالإغراق في الخيال وإطلاقه على سعته، مع حالة من الحدس الملائم، يحدث لنا جانب من التفكك المنهجي للأشياء والمواضيع وتتسع لنا كل النواحي المفاهيمية وكذا التحليلية والوصفية، لكل وقائع الوجود وظواهره، وتزيد لدينا حالة من المكاشفات العقلية ويرتقي الذوق وتزيد المعرفة والقدرة على انتزاع الأفكار وتوليدها ثم توظيفها في سياقها حسب ما نود طرحه، وهكذا يظل الوجود مفتوح للتساؤلات الفلسفية العميقة والمتعددة، لأنها أي التساؤلات اقترنت بسعة الفكر النير والقدرة على الاطلاع والغوص في جوهر الأشياء التي تفضي بنا إلى آفاق واسعة يحضر فيها قوة الوعي المباشر وغير المباشر، ويتجلى حضور الشخصية المتفاوت بين العمى والبصيرة.. وإلى لقاء.