من أغرب ما سمعت قول أحدهم مؤخرا: إن فقده درجة في امتحان كان أشد عليه من وفاة والديه، وإنه حين مات أبوه داوم في اليوم التالي، وحين توفيت أمه اشترى من الغد قطعة أرض.. هذا القول الصادم لا يخالف العاطفة الإنسانية فحسب، بل يصطدم بأصل من أصول الفطرة التي فطر الله الناس عليها، إذ جعل الحزن على الوالدين علامة وفاء وبر، لا ضعفًا ولا تخلفًا عن الرشد. الإنسان في طبيعته مخلوق ذو وجدان، يحزن لفقد الأحبة ويشعر بالفراغ العاطفي عند رحيل والديه، لأنهما الأصل والملاذ الأول. وقد أقر الإسلام هذه الفطرة وعدّها من دلائل الرحمة في القلب، لا من مظاهر العجز.. فعندما بكى النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم، تعجب بعض الصحابة، فقال: "إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون"، لم يمنعه إيمانه الراسخ ولا مقام نبوته من البكاء، بل جعل من حزنه عبادة حين ضبطه برضا الله. فكيف بمن يعد الفقد أمرًا عابرًا، لا يستحق حتى يومًا من الانقطاع أو التذكر؟ وقد ورد في السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال: "استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت".. في هذا الموقف تتجلى الرحمة النبوية في أوضح صورها، فالحنين إلى الأم لا يزول بمرور السنين، ولو كان بعد النبوة والرسالة. فكيف يمكن لإنسان أن يفقد والديه ولا يضطرب قلبه، ولا تظهر عليه آثار الحزن أو التأمل في المعنى الإنساني للموت؟ إن تجاهل الحزن بحجة القوة أو الواقعية ليس من الحكمة في شيء، بل هو تبلد شعوري يُفقد الإنسان توازنه الداخلي.. فالمشاعر ليست ضعفًا بل دليل حياة، والمجتمعات التي تهمش العاطفة باسم "الصلابة" تفرز أفرادًا قساة القلوب، لا يعرفون معنى البر، ولا يعترفون بجميل من أنجبهم ورباهم.. إن البر بالوالدين لا يقتصر على حياتهما، بل يمتد بعد موتهما بالدعاء والوفاء والذكر الحسن.. والموضوع في جوهره ليس مجرد انفعال عابر، بل قضية قيمية تمس ضمير المجتمع، فإذا صار الحزن على الوالدين سلوكًا يُستهان به، تآكلت الروابط الأسرية وفسدت المشاعر الأصيلة التي تحفظ الإنسانية من التوحش. إن احترام الحزن هو احترام للإنسان ذاته، وتقدير لمعنى الوفاء والرحمة التي بها قامت الشريعة، وبدونها يصبح الإنسان آلة جامدة، لا تعرف الحنين ولا الوفاء.. ولذلك فإن من واجب كل عاقل أن يعيد النظر في مفهوم "القوة" و"الصلابة"، فالقوي حقًا هو من يحزن بصدق ثم يرضى بقضاء الله، لا من يكبت مشاعره حتى تموت.. فالحزن على الوالدين ليس ضعفًا، بل هو من تمام البر، وبه تستقيم الفطرة وتبقى الإنسانية حية في وجداننا.. فأغلبنا -ولله الحمد- عندما فقد أبوه لم يذهب للعمل في اليوم التالي وكأن شيئا لم يكن، وعندما فقد أمه لم يتوجه إلى سوق العقار بحثا عن أرض! * وقفة تأمل: يقول المثل العربي: "رب كلمة قالت لصاحبها دعني".