تُعَدُّ تجربةُ الدكتورة ندى الركف علامةً فارقةً تمزج بين الوعي الفلسفي والبحث الجمالي في فضاء الفن السعودي المعاصر، من خلال مشروعها «شفرة الروح» الذي يجمع بين البنية العلمية والمنظور الروحي في حوارٍ بين العقل والتأمل. المعرض ليس مجرد عملٍ بصريٍّ، بل نصٌّ فلسفيٌّ مكتوبٌ بلغة الصورة، يُعيد قراءة العلاقة بين الجسد والروح والعالم، مستلهِمًا مخطوطاتِ ليوناردو دافنشي بوصفها منطلقًا للبحث عن الإنسان الكوني وإعادة ترجمتها بلغة الحاضر والوعي الروحي الجديد للفنان السعودي. تبدأ الركف مشروعها من الإنسان الفيتروفي عند دافنشي، لا بوصفه استدعاءً شكليًا، بل إعادة بناءٍ فلسفيةٍ لمعادلة الجسد والروح. فهي تبحث في الهندسة الكونية للوجود الإنساني، لتعيد من خلال أعمالها صياغة التناغم بين الداخل والخارج، والمادي واللامادي، والزمني والسرمدي. وتشمل أعمالها: «المربع الكوني»، «نقطة اتزان»، «ارتقاء»، «كن أنت»، «إلى اللانهائية»، «نقطة البداية»، و«لغة الروح»؛ وهي مفاتيح لفكِّ شيفرة الوجود كما تراها الفنانة. الركف لا ترسم ما تراه العين، بل ما يراه الوعي حين يتأمل ذاته. ففي «المربع الكوني» يتحول الجسد إلى تمثيلٍ هندسيٍّ للكون، وفي «نقطة اتزان» تُعيد مركزَ الإنسان في علاقته بالمطلق، أما «ارتقاء» فتجعل من الجسد رمزًا للوعي الصاعد نحو اللانهائي. تتحول كل لوحة إلى معادلة بصرية تُدرَك بالحدس، لأن الركف تكتب بالفن كما يُكتب الشعر الفلسفي، بلغة الرموز والنِّسب لخدمة إدراكٍ كونيٍّ أوسع. تأتي أهمية تجربة «شفرة الروح» من كونها تمثِّل أحد أبرز التحوّلات في الخطاب الفني السعودي المعاصر، إذ تنتقل من الموروث الواقعي والزخرفي إلى الفن التأملي الفلسفي الذي لا يعرض العالم بل يُسائل علاقة الإنسان بالكون وماهية الفن ذاته. وبهذا المعنى، تُسهِم الركف في توطين الفكر الجمالي المفاهيمي داخل المشهد السعودي، وبناء لغةٍ تتجاوز الزخرف إلى البنية، والرمز إلى الوعي. في عملها «كن أنت» تستخدم الركف المرآة الأكريليكية كأداة رمزية، لا للانعكاس بل كفضاءٍ معرفيٍّ يتحد فيه المرئي بالمتخيَّل، لتصبح لحظةُ مواجهةِ الكائنِ صورتَه فعلًا من أفعال الإدراك الذاتي. تتحول المرآة من كيانٍ ماديٍّ إلى حقلٍ دلاليٍّ للوعي، تُظهِر ما هو خفيٌّ وتصبح وسيطًا بين الإنسان وصورته الوجودية. في التراث الصوفي، المرآةُ رمزٌ لتصفية القلب من شوائب المادية، كما كانت في الفلسفة الغربية أداةً للتساؤل حول الوعي والذات. توظِّف الركف هذا الإرث في سياقٍ معاصر، مستعيرةً مرجعيتَها البصرية من لوحة «موندي سالفاتور» لدافنشي، لتخلق توليفًا دلاليًا بين الشرق والغرب، بين الروح والعلم. حين يقترب المشاهد من العمل يرى صورتَه متداخلةً مع طبقات المعنى، فيصبح جزءًا من العلامة نفسها، ويحدث انعكاسٌ متبادل: المرآة تعكس الجسد، والعمل يعكس الوعي. الضوء هنا دالٌّ فلسفي؛ «النور يرى نفسه بنفسه»، فكل انعكاسٍ مستوىً من الوعي. يُختتم العمل بعبارة «كن أنت»، جملةٌ بسيطةٌ وعميقة، تؤكد أن الوجود الحقيقي لا يُمنح من الخارج، بل ينبع من الداخل. ليست شعارًا بل تجسيدًا لفعل الوعي، ولحظةَ التقاءِ الإنسان بصورتِه الكونية، حيث يتوازن الجوهر والظل، الروح والمادة. هكذا تؤسِّس الركف لرؤيةٍ فنيةٍ ترى في الفن وسيلةً للمعرفة والاتصال بالجوهر، فتحوِّل المتلقي من متفرِّجٍ إلى مشاركٍ في التأمل، وتمنح الفن السعودي بُعدًا فلسفيًا جديدًا يجمع بين العمق الجمالي والوعي الكوني، ليصبح «شفرة الروح» بيانًا فكريًا يضع الوعي في قلب التجربة الجمالية، ويفتح حوارًا بين العلم والروح، وبين العقل والحدس. عمل «ارتقاء» عمل «نقطة البداية» عمل «اللانهائية»