أمير تبوك يطلع على نسب إنجاز مبنى مجلس المنطقة    برعاية ولي العهد.. انطلاق الملتقى العربي لمكافحة الفساد والتحريات المالية    قمة عادية.. في ظرف استثنائي    الأهلي يتحدى الهلال والاتحاد يبحث عن «النصر»    الاتحاد في مأزق الخليج.. نقاط الأمان تشعل مواجهة الوحدة والرائد    «عكاظ» تنشر الترتيبات التنظيمية للهيئة السعودية للمياه    صفُّ الواهمين    «الصحة» تدعو حجاج الداخل لاستكمال جرعات التطعيمات    أمير تبوك: ليالي الحصاد والتخرج من أسعد الليالي التي أحضرها لتخريج أبنائي وبناتي    «هاتريك» غريزمان تقود أتلتيكو مدريد للفوز على خيتافي في الدوري الإسباني    نريدها قمة القرارات لا التوصيات    71 فناناً وفنانة في معرض «كروما» بجدة    حل وسط مع الوزراء !    محاولة يائسة لاغتيال الشخصية السعودية !    مخاطر الألعاب الإلكترونية على الأمن المجتمعي    معاً لمستقبل عظيم !    السلطات الفرنسية تطارد «الذبابة»    بوتين يصل إلى الصين في زيارة «دولة» تستمر يومين    استمرار الجسر الجوي الإغاثي إلى غزة    «الحر» يقتل 150 ألف شخص سنوياً    دعوة عربية لمجلس الأمن باتخاد إجراءات سريعة توقف العدوان الإسرائيلي    شتلات شارع الفن    خارطة طريق سعودية - أميركية للتعاون في مجال الطاقة    السعودية مثال يُقتدى    في قمة مواجهات الجولة 32 من «روشن».. ديربي الرياض بروفة نارية لنهائي كأس الملك    توثيق من نوع آخر    خطوة جادة نحو رؤية وزارة الرياضة    القيادة تهنئ رئيس الباراغواي ورئيس وزراء سنغافورة    «حلبة النار»… النزال الأهم في تاريخ الملاكمة    معرض"سيريدو العقاري"أحدث المشاريع السكنية للمواطنين    تعزيز التعاون العدلي مع فرنسا وأستراليا    باكوبن والدقيل يزفون المهندس محمد    عبدالملك الزهراني ينال البكالوريوس    وزير الاستثمار: الاقتصاد السعودي الأسرع نموا وجاذبية    طريق الأمير محمد بن سلمان.. أهم مسار لتنقل الحجاج    خادم الحرمين الشريفين يصدر عددا من الأوامر الملكية    إنتاج الصقور في الحدود الشمالية    "الدرعية" تُعزز شراكاتها الاقتصادية والسياحية    السفير الإيراني يزور «الرياض»    رحالة فرنسي يقطع ثمانية آلاف كلم مشياً على الأقدام لأداء مناسك الحج    رعاية ضيوف الرحمن    سقيا الحاج    خادم الحرمين الشريفين يصدر عدداً من الأوامر الملكية.. إعفاءات وتعيينات جديدة في عدد من القطاعات    « سعود الطبية»: زراعة PEEK لمريض عانى من كسور الجبهة    لقاح جديد ضد حمى الضنك    مختصون يدعون للحدّ من مخاطر المنصّات وتقوية الثقة في النفس.. المقارنة بمشاهيرالتواصل الاجتماعي معركة خاسرة    5 منافذ في الشرقية تستعد لاستقبال الحجاج    «الداخلية» تطلق ختماً خاصاً للمستفيدين من مبادرة «طريق مكة»    المزروع يشكر القيادة بمناسبة ترقيته للمرتبة 14    المنتخب السعودي للعلوم والهندسة في سباق للمجد.. الجمعة    «نافس».. منافع لا تحصى لقياس الأداء التعليمي    نائب أمير الشرقية يستقبل منتسبي "طويق"    جامعة الأميرة نورة تُنظِّم مؤتمر لترجمة الهُوية السعودية عبر اللُّغات والثقافات الأخرى    رئيس جمهورية المالديف يُغادر جدة    وزير العدل يلتقي رئيس المجلس الدستوري في فرنسا    «النيابة»: باشرنا 15,500 قضية صلح جنائي أسري.. انتهاء 8 آلاف منها صلحاً    أمير تبوك يثمن للبروفيسور " العطوي " إهدائه لجامعة تبوك مكتبته الخاصة    وزير الحرس الوطني يرعى تخريج 2374 طالباً وطالبة من «كاساو»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفصل الثالث .. رحلة القلق والعشق في شعر عبدالعزيز محيي الدين خوجة ( 2-2 )
نشر في البلاد يوم 03 - 06 - 2011

في حين أنّ الزمن الماديّ المكثف هو الوقت المحدّد للاحتماء بالأمّ، والذي لابدّ أن يصبح زمناً متعدّداً عبر الشساعة المتحكّمة في فضاء الذات، إذ لابدّ من أن تكون الزيارة هي هي، ولكنّها زيارة متقطّعة، تتم في أزمنة مختلفة كما هو واضح في تعبير رائع عن تعدّد السمات الدلالية للمرجع المركزي وعن تعدّد الأزمنة التي تؤول إلى زمن ماديّ واحد.
وضممت كالمجنون
أطياف الرؤى عبر الزمان
فيد تعانق أوبتي
ويد تربّت في حنان
وأنا أقبّل ذا المكان
وذا المكان، وذا المكان
وشميم روحك يا أخي
عدنان يعبق كلّ آن،
أمّي تناديه فيحضنها
فيحضنه الأمانْ.
ج التعدّد في مستوى المكان
إنّ تعدّد الأمكنة وتنوّعها المختلف دليل واضح على أنّ الفضاء الجمالي ليس هو المكان الذي يحدّد حركة الذات الإبداعية كما يعتقد كثير من الناس. وذلك لأنّ التنوّع المكاني آلية تستخدمها الذات على أساس أنّها أداة للتفاعل بالفضاء الإبداعيّ الذي تتخيّله. ومن هنا نستطيع التمييز بين المكان باعتباره معطى مادياً وبين الفضاء على أساس أنّه معطى جمالي. إنّ المكان قد يكون هو حقل الورد والصحراء والبحر والغرفة المظلمة أو الطلل والدار العتيقة، في حين أنّ الفضاء هو البعد الجمالي المتخيّل لمجموعة هذه الأمكنة في إِطار التفاعل بالعالم. ولذلك فإنّ المبدع يتمكّن عن طريق التفاعل من أن يجعل من حقل الورد مجالاً تصورّياً للمحبّة، ومن الصحراء هجراناً والبحر قلقاً أو غربة، وكذا من الغرفة المظلمة قمعاً، والطلل والدّار العتيقة ذكرى جميلة أو حزينة.
ومعنى هذا أنّ البعد التعدّدي للمكان في الشعر إِنّما هو سمات دلالية لفضاء يتّسم بغنى التفاعل وتنوعه وامتداده.
في قصيدة هجير يتخيّل الشاعر أنّ ذاته تتحوّل إِلى ذرّات رمل مرتعشة ومتناثرة. تنتشر من الوهج وهي صامتة تتأمّل احتراقها في زمن متوقّف.
وتناثر رملي
من وهج الزفرات،
حتّى ارتعشت
ذرّاتي
وانتشرت
من وهج هجير الذات.
إِنّها الذات في تفاعلها:
أ بالزمن المتوقّف
ب بالمكان المتعدّد
يدلّ على ذلك التناثر والانتشار اللذان لابّد لهما من أن يعبرا المكان الواحد إلى المكان المتعدّد. ويدّل عليه أنّ الذات انقسمت في سبيل هذا التعدّد إِلى ذرّات لا عدد لها. أي أنّ التفاعل بالفضاء المتعدّد قد تحكّم في الذات إِلى أبعد حدّ ممكن حتّى جعلها أجزاءً صغيرة متناثرة في كلّ مكان.إِنّها ذات لم تعد تدرك ذاتها بحكم هذا التعدّد، وهو ما جعلها تفقد خاصيّة المكان المحدّد الذي سيتحوّل إِلى ظلال ممكنة، تتحوّل معها الذات نفسها إِلى ظلال متعدّدة وغائمة.
صمتي يتهامى،
في صمت زماني
وأنا محبوس
في ظلّ مكان الإِمكان
وكلانا يا روحي
ظلُّ ظلالٍ
إِنّ هذا التناثر نفسه هو ما يتحكّم في قصيدته الحلم المسافر، إِذ مجمل ما ورد فيها من وحدات معجمية يدلّ على تعدّد المكان في مستوى:
أ الذات
ب موضوع التفاعل
ج حدود التفاعل
وهو ما يمكن تنظيمه في محاور استبدالية على الشكل التالي:
أ الذات: حلم تعثّر غربة تفتّت تناثر.
ب موضوع التفاعل: امرأة حلم هارب بحث مستمرّ أفق رحب نهر متدفّق.
ج لا معاندة # معاندة قيد # إطلاق اسر # حريّة.
إِنّنا بصدد تفاعل يتحكّم فيه تعدّد الفضاء، إذ الذات بالرغم من كونها مقيّدة وغير معاندة وفي حالة أسر أبديّ ذات يتحدّد الفضاء الشعري لديها عبر الحلم فتجد نفسها متعثرة تعاني من التناثر والتفتت والغربة الدائمة.
ويقابل ذلك أنّ موضوع التفاعل الذي هو موضوع الحلم، إِنّما هو امرأة تعشق الارتحال والحرية. فينتج عن ذلك أنّ الذات لا تعثر على بديل لمعاناتها إِلاّ بأن تحوّل القيد إِلى تناثر يمكّنها من أن تعبر الحلم نحو هذه المرأة، فتُعدِّد الرحلة إِليها، عبر تخيّل إِبداعيّ جميل، يستطيع به الشاعر أن يجعل من الأسر حلماً مسافراً، أو فضاء تخيّلياً متعدّداً ومضاعفاً يتسم بعدم التحديد المكاني.
يا حُلمي، يَا مَن غَادرني
يَبْحَثُ عَنْ قلب غَيْري
عَنْ أفْقٍ أرْحَبْ
مَا عَانَدْتُكَ، يَا حُلمي، أبَداً
لَكنِّي قد قَيْدِ الأسْرِ
أتَعَثَّر فِي خَطْوي.
... أتَغَرَّبْ
هَذا قدرُ القَلْب المخْبوء عَلى الزَّهرِ
يَتفَتَّتُ من لِمْسهْ
يتَحرَّقُ مِن دَفْقَةِ عطْرِ
يَا حُلمي المتَدَفِّق كَالنَّهْرِ!
لَكَ أنْ تَهْربْ
لَكنَّكَ لَنْ تَلْقى
فِي الأرض مَكاناً للطُّهْرِ.
3 الشساعة
إِنّ الفرق بين التعدّد والشساعة يكمن في أنّ بنية الزمن تحضر في الفضاء المتعدّد بشكل متعدّد هي أيضاً. أي أنّ الذات الإِبداعية تتحرّك داخل الفضاء المتعدّد في أزمنة متعدّدة يختلط فيها الماضي بالحاضر بنحو ما يختلطان معاً بالمستقبل؟ في حين أنّ الشساعة تتوخّى الزمن المتوقّف لتجعل منه لحظة إّبداعية واحدة منفتحة على فضاء شاسع.
في قصيدته وجه على الطريق يتعدّد الفضاء ويصبح شاسعاً في آن واحد، يندمج مع الزمن الإِبداعي المضاعف كي يتعدد، ويوظّف التوقّف الزمني كي يتّسع.
إِنّهما آليتان مختلفتان ينبني في إِطارهما النصّ الإِبداعي بشكل مختلف ومتلاحم. وهو ما يمكن توضيحه عبر الترسيمة التالية:
زمن متعدّد: ماضي + حاضر + مستقبل - أمكنة متعدّدة - فضاء متعدّد.
زمن متوقّف: لحظة واحدة - مكان واحد - فضاء شاسع.
يقول:
يتزاحم الوله الجديد مع القلق
تتزاحم الطرقات والأجواء يختنق
تتصادم الأشياء بالأشياء بالوجه المتلبّد بالتعاسة والعرق
تتكرّر السحنات هائمة على كلّ الطرق
فنلاحظ أنّ الزمن قد تقلّص إِلى أقصى درجة ممكنة ليصبح لحظة واحدة تتجه إِلى العمق بحسب بعد واحد هو الحاضر الآنيّ الذي تفيده الأفعال:
يتزاحم تتزاحم تتصادم تتكرّر.
إن هذا التكرار للفعل المضارع الذي يفيد الآنية توظيف واضح لبناء هذه المقطوعة في إِطار الزمن المتوقّف، ذلك أنّ كلّ فعل من هذه الأفعال الأربعة يفيد حركة الذات في اللحظة الحاضرة بهدف تعميقها في اتّجاه واحد هو عمق التوقّف. وهو ما يمكن تنظيمه وفق ما يلي:
يتزاحم الله - توقف الذات
تتزاحم الطرقات - توقّف الفضاء
تتصادم الأشياء - توقّف الأشياء
تتكرّر السحنات - توقّف الإِنسان
ولكنّ ما يستفزّنا في هذا التكرار هو أنّ الذات المتوقّفة ذات لا تتحرّك في طريق واحد متوقّف بل إنّ طرقاتها شاسعة ومتداخلة ومتنوّعة، تنضاف إليها في بناء الصورة أجواء مختنقة في نفق. أي أن لحظة عبور النفق لحظة متوقفة هي أيضاً، تتزاحم داخلها أجواء متراكبة لا تكاد تعبر هذا النفق الشاسع وبعيد المدى!
وذلك ما تفيده نهاية المقطوعة، إِذ تكرار السحنات يفيد التوقّف في حين أنّ ضياع هذه السحنات في كلّ الطرق يدل على الشساعة وعلى أنّه ضياع يتمّ في لحظة واحدة عَبر ممرّات ومسالك وطرقات مختلفة ومتداخلة لا سبيل إِلى تحديد فضائها إِلاَ بأن نقول إِنَه فضاء شاسع ومتداخل.
وفي مقابل هذا التوقّف الزمني الذي يتلاحم مع الشساعة، نجد أنّ القصيدة قد انبنت أيضاً وفق التعدّد الزمني المقترن إِلى التعدّد المكاني. أي أنّ الزمن ليس لحظة واحدة متوقّفة، كما أن المكان ليس هو نفسه كي يصير شاسعاً ومتداخلاً وبعيد التوجّهات، بل إِنّه أمكنة متعدّدة ومختلفة تتفاعل معها الذات من مواقع مختلفة، على عكس الفضاء الشاسع الذي تتفاعل معه من موقع واحد.
يقول في قصيدة وجه على الطريق أيضاً:
وكأنّني حجر على وشم العصور ودحرجوه
حجر:
+ اسم + جماد + لا إنسان
العصور:
+ اسم + جمع + زمن + تعدّد
دحرجوه:
+ فعل + حركة + تعدّد + في أمكنة مختلفة
ثم يقول:
أعدو أدحرج قامتي في الأزمنة
أدحرج:
+ فعل + حركة + تعدّد + في أمكنة مختلفة
قامتي:
+ اسم + حجم + إنسان
الأزمنة:
+ اسم + جمع + زمن + تعدّد
وهو ما نحصل منه على التقابلات التالية:
(إنسان = لا إنسان) + (زمن = متعدّد) + (مكان = متعدّد).
أي أنّ الذات الإنسانية تتحوّل في هذا النصّ إلى شيء لا إِرادة له في ضياعه عبر زمن متعدّد وفضاء متعدّد، وهو ما يؤول إلى ضياع الذات الإبداعية وغربتها كما استخلصنا فيما سبق من هذه الدراسة. وهو ما يدلّ عليه بشكل صريح قوله في هذا السطر الشعري الجميل:
حتّى وذبت مع الزحام فمن أكون ومن أنا
ثمّ يعود الشاعر إلى البناء الأصلي في القصيدة قائلاً:
أبواق سيارات كلّ الكون تصرخ هاهنا
أي إلى توقّف الزمن وشساعة الفضاء ومضاعفته إلى أقصى الحدود، وكأنّ الذات لم تكتف بالتعدّد كي تعبّر عن ضياعها، وإنّما أضافت إليه في حيوية إبداعية نادرة بعد الشساعة كي تضاعف من دلالة الغربة الرهيبة والتشرد الإِنساني الفظيع حتّى لا طريق لديها يستبين أو درباً واضحاً تسير فيه:
هذا أنا فوق الطريق ولا طريق
إِنّه الزمن المتوقّف والفضاء الشاسع، ثمّ الذات الإِبداعية المغتربة والضائعة بينهما. هذه الذات التي لابدّ لها من أن تتفاعل مع التوقّف الزمني حتى تبني الفضاء الشاسع. قد يتّخذ هذا التفاعل صبغة الغربة الوجودية كما هو الأمر في وجه على الطريق، وقد يتخذ صبغة التأمّل الفلسفي في لحظة زمنية عميقة لفضاء شاسع تحاول الذات فهمه واستيعابه كما نجد في قصيدة اقلب رمادك.
يقول في لحظة التأمّل هاته:
اقلب رمادّك مرّةً سافر على أمل شريد
مرّة:
+ اسم + زمن + محدود + غير محدّد
سافر:
+ فعل + أمر + تنقّل
أمل:
+ اسم + رغبة + لم تحقّق بعد
شريد:
+ صفة + ضياع + لا مكان
وهو ما نتمكّن معه من أن نستخلص بأنّ موقع الذات موقع غير مرغوب فيه، ولذلك فهي تسعى إلى أن تفنى أو تحترق كي تستبدل بهذا الموقع فضاءً آخر ترغب في السفر إليه وتريد أن تحقّق ضمنه أملاً شارداً يتباعد كلّما حاولت الاقتراب منه، أي أن فضاء الشساعة قد استبدّ بالذات إلى الحدود التي تريد أن تفنى معها عبره. إِنّها هنا في معاناة رهيبة بين زمنها المتوقّف الذي يفرضه كلّ تأمّل فلسفي عميق في التجربة الإبداعية المحقّقة، وبين فضاء العالم الشاسع الذي يعتبر هو أيضاً معطى من معطيات الإدراك الفلسفي للكون.
لابدّ من جمر يشعّ من البعيد
جمر:
+ اسم + اشتعال + إِحراق
البعيد:
+ اسم + مكان + غير محدّد
إنّ رغبة الذات في أن تحترق رغبة أكيدة ومتواصلة، إِنّها هي الأمل الجديد الذي راود الذات بعد أن تحوّلت إلى رماد بفعل احتراق سابق، ولذلك فإِنّها كلّما استقرّت وتمكّنت من أن توقف زمنها، تستبدّ بها رغبة جديدة في السفر. إِنّها ذات لا تطيق الفضاء المحدّد، فتحاول باستمرار أن تجعل من تجربتها الإبداعية انفلاتاً متعدّداً من الأمكنة، كي تجعل من رؤيتها رؤية متشبْعة بالتعاسة، حتّى تتمكّن من إِنجاز التأمل الفلسفي الذي تسعى إليه في لحظة التوقّف الزمني.
إِنّ هذه الشساعة غير موقوفة على ما يوجد خارج الذات من مظاهر كونية للتأمّل، وإِنّما هي شساعة تمتد إِلى الداخل، أي إِلى الطاقة الروحية التي تمتلكها الذات، فتسعفها في أن تضاعف من حدّة التجربة الإِبداعية، ومن غناها وتنوّعها. إِنّها الشساعة وقد امتدّت إِلى العالم الباطني لدى هذه الذات فأملت عليها محاولةَ تأمّل هذا الباطن بقصد الانسجام مع الكون الشاسع الذي تسعى إِلى استيعابه:
اقلبْ رمادكَ في ثنايا الروح في دمك المباح
إِمَا يطير مع الرياح
إِمَا يعيد لك الجراح
إِنّه ارتداد إِلى الدّاخل، يدّل على أنّ مكون الشساعة قد تمكن من الذات إلى أبعد حدّ ممكن، فجعل من الروح ثنايا محترقة وجماراً خابية، ثمّ حوّل الدّم الذي يسري في الجسد إلى دم مباح قد تحوّل هو الآخر إلى رماد تذروه الرياح وتفرّقه شتّى الجهات . والمهمّ من كلّ ذلك كما ذكرنا سابقاً أنّ مكوّن الشساعة يتلاحم كل التلاحم مع الزمن المتوقّف، في الوقت الذي نلاحظ فيه أنّ مكوّن التكثيف والتعدّد يتضمّنان تعدّداً زمنياً متداخلاً وديمومة زمنية لا نميّز ضمنها بين الماضي والحاضر.
إنّها جدلية الذات الإبداعية، حين يتحدّد زمنها تتحدّد أمكنتها، وحين يتوقّف زمنها يصير الفضاء لديها إمّا إلى حالة التكثيف الذي تحتمي به أو إلى حال الشساعة التي تترجم ضياعها وتشرّدها وقلقها الوجودي المستبّد. أما فيما يخصّ الفضاء اللانهائي فإنه حال لتطابق الذات الإبداعية مع الكون، كما هو الأمر تماماً في علاقة الذات بالزمن المطلق. أي أنّ مكوّن اللانهاية في مستوى الفضاء ينسجم انسجاماً تامّاً مع مكوّن المطلق في مستوى الزمن. إنّهما يعكسان حال تطابق الذات الإبداعية مع الكون في لا نهائيته وفي زمنه السديمي الذي لا بداية له أو نهاية.
وهو ما سنحاول الوقوف عنده فيما يلي من هذه الدراسة.
4 اللانهاية
إنّ بنية الفضاء عند عبدالعزيز محيي الدين خوجة تتدرّج وفق أربعة مكوّنات متلاحمة، إما ضمن القصيدة الواحدة، أو أن يتحكّم مكوّن واحد منها في قصائد مختلفة ونقصد بذلك:
أ التكثيف: وهو الاحتماء بالفضاء الواحد حين الشعور بالضياع.
ب التعدّد: ويتحدّد من خلال أمكنة متعدّدة يتنوّع زمنها.
ج الشساعة: وتكمن في مضاعفة سمات الفضاء الواحد مع توقّف زمني ينسجم معه.
د اللانهائية: وهي الدرجة القصوى لتفاعل الذات مع الفضاء إلى حدود عدم التمييز بينهما. إنّها الرؤية الكلية للكون وقد أصبحت الذات جزءاً منه وعنصراً من عناصره.
يتوفّر ذلك في عدّة قصائد تنبني وفق هذا البعد المطلق واللانهائي للفضاء، ثمّ لا نعدم له وجوداً في مجمل ما كتبه هذا الشاعر المتميّز. على أساس أنّ هذا البعد يتكامل مع غيره من المكوّنات سواء فيما يتعلّق ببنية الزمن أو بنية الفضاء.
إنّ بعد اللانهائية في مستوى الفضاء يتلاحم كلّ التلاحم مع ما درسناه سابقاً فيما يخصّ الزمن المطلق. ولذلك فإنّ بنية الزمن تنسجم مع بنية الفضاء، فتتلاحم مكوّناتهما لبناء النصّ الشعري عند عبدالعزيز محيي الدين خوجة تلاحماً حيوياً ومنتجاً وبنيوياً. وذلك ما يمكن توضيحه حسب الترسيمة التالية:
الزمن الفضاء
أ التوقف الشساعة
ب التداخل التكثيف
ج الديمومة التعدّد
د المطلق اللانهاية
ولكنّه بالرغم مما يمكن استخلاصه فيما يخص مكونات أ، ب، ج، فإنّه لابد من الإشارة الصريحة إلى أن الزمن المطلق وفضاء اللانهاية هما المكونان البنيويان المهيمنان على مجمل شعر عبدالعزيز محيي الدين خوجة. ذلك أنّ الذات الإبداعية لديه تتدرج وفق المعطيات مكوّنات السابقة لتصب في مصب الزمن اللانهائي والفضاء الذي يلتحم معه في هذا اللانهائي.
ولعل في قصيدته الرائعة غلى من أهواه سمات دلالية واضحة لهذا الفضاء الذي سنركز عليه في هذا الجزء من دراستنا.
شيء ما
أقوى من كل الأشياء
القى بي
حول مدارك.
إن الخطاب موجه في هذه القصدية إلى ذات معينة، تتمركز في مدار معين، فتستقطب من داخل هذا التمركز ذواتاً متعددة تصير بمثابة مدار لها.
إِذن نحن بصدد مجرة أو نقطة مركزية في فضاء لا حدود له، اتخذت مجالاً للاستقطاب. وهو ما نستخلص معه أن هذه الذات المركزية مع ما يدور حولها من ذوات:
توجد في الكون الشاسع
ب غير محدّدة إلا في إطار سمات فضائية تجريدية.
ج متفاعلة مع غيرها من الذوات.
د هذه الذوات نفسها غير محددة.
فقدت مقاومتي
وفقدت محاولتي
كي أنفك بعيداً
عن إغراء مسارك
فقدت:
+ فعل + فاعل + لا إرادة
مقاومة:
+ اسم + إراردة + ضعيفة
محاولتي:
+ اسم + إرادة + ضعيفة
أنفكّ:
+ فعل + حرية + مفقودة
إغراء:
+ اسم + مكان + فضاء
إن ما يميز فاعل الخطاب هو كونه فاعلاً يفقد إرادته في أن يبتعد عن المدار الذي حدده لتفاعله مع المخاطب، إنه يريد الابتعاد عن مساره، ولكن رغبته في حريته واستقلاله، تصارع رغبته في التفاعل، إذ لا يستطيع مقاومة الإغراء الذي يجذبه كي ينخرط في هذا المسار الذي ابتلي بالتفاعل معه.
إنه صراع الداخل والخارج يعتمل في حدة لدى الذات الإبداعية.
شيء ما
تسلل في أوردتي
مثل الشلال،
يتمدد فيها ألواناً وخيال
ألواناً قزحية
همسات وردية
ونداء عيون غيبية
تتحدى كل محال
إن إغراء الخارج الذي تحاول الذات مقاومته، يمتد إلى مركز الداخل، إلى الدم والأوردة، فتغيب مع هذا الامتداد كل محاولة في المقاومة، بل يتحول الأمر إلى تفاعل حيوي بين ما يوجد داخل الذات وما تنجذب إليه في الخارج. أي أن درجة التفاعل ستصل إلى حدها الأقصى بفعل تحكم لانهائية الخارج في الداخل كي يغدو وهو أيضاً لانهائياً ومطلقاً ومستسلماً لرغبته في أن ينسجم مع هذا المسار الذي يجذبه إليه ويغريه بفقدان إرادته في الانفصال عنه.
أوردة:
+ اسم + جمع + دم + حياة + داخل
شلال:
+ اسم + ماء + غزير + حياة
يتمدد فيها:
+ فعل + اتساع + داخل + أوردة
ألوانا:
+ اسم + جمع + تنوّع + تعدّد + داخل
خيال:
+ اسم + تصوّر + داخل
إن ما يتميز به الداخل هو أنه دلالة على الحياة، إذ يتضمن الدم والماء اللذين يعتبران جزءاً أساسياً من حياة الإنسان والكون. ولذلك فإن هذين العنصرين بحد ذاتهما دلالة واضحة على اللانهاية، لأنه بهما تنشأ الحياة وبهما تستمر لدى كل الكائنات، بل فيما يخص النبات أيضاً إذ لا غنى له عن الماء.
ولكنّ هذه الحياة اللانهائية والمطلقة للكون، تتسرب إلى داخل الذات الإبداعية التي تتحول بفعل امتداد اللانهاية إلى فضاء شاسع وحيوي يتضمن الماء واللون والخيال، أي يتطابق مع الكون الخارجي في لانهائيته، فترتاح الذات لهذا التطابق، وتستسلم لمركز هذا الكون الذي هو موضوع التفاعل الأصلي بالنسبة إليها. إنها ذات مأخوذة بالمجهول، تبحث عنه كي تستسلم له، ترغب في ملاحقته كي تذوب في مركزيته.
شيء ما
يأخذني
كالموجة في تيار
فتذوب معاندتي
وتضيع مكابرتي
...
أنت الشمس لعمري
وأنا حولك بعض الأقمار
إن هذه الذات حين تتخلى عن إرادتها وعن رغبتها في المقاومة تصير إلى أن تصبح فلكاً صغيراً ينجذب إلى الشمس التي هي الحياة بالنسبة إليها. ولذلك فإنه لا وجود لها خارج هذا المدار. أي أن التطابق صار تطابقاً كلياً وممتداً في اللانهاية. أقصد اللانهاية في الكون واللانهاية فيما يتعلق بالذات التي صارت جزءاً من هذا الكون. فينتج عن ذلك أن الداخل والخارج قد أصبحا متطابقين في لانهائيتهما.
إشعاع ما من روحك
يتمدد في الكون بهاء
يتسرب في نفسي أنسا
يتماوج في كأسي حسا
يتلألأ في كل سماء.
إشعاع:
+ اسم + نور
روح:
+ اسم + حياة
يتمدّد في الكون:
+ فعل + اتساع + اسم + لا نهاية + خارج
بهاء:
+ اسم + نور
يتسرّب في نفسي:
+ فعل + تغلغل + اسم + داخل
أنسا:
+ اسم + طمأنينة
إن علاقة الخارج الذي يتميز بلانهائيته بالداخل المنجذب إليه، تصبح بعد التطابق نوراً وبهاء وطمأنينة. أي أن الصراع بينهما يتحول إلى تفاعل تطابقي تتنازل الذات نتيجة له عن رغبتها الأولية في المقاومة، وعن إرادتها في محاولة الانفلات. إن هذا التطابق بين الذات والكون ضمن اللانهائي، هو ما يحيل على الذوبان في المطلق، سواء في مستوى الفضاء أو في مستوى الزمن:
جاوزت بمعراجي
آفاقا وطباق
وبراقي وجدي
وجناحي الأشواق.
إن المجاورة تقتضي استحضار ثلاثة عناصر متكاملة ومتلاحمة هي:
أ الذات على أساس أنها العامل الذي يحدث هذه المجاوزة.
ب الزمن الذي يتطلبه هذا الحدث.
ج الفضاء الذي يتم فيه.
فإذا تأملنا المقطوعة السابقة في ضوء هذه العناصر أمكننا أن نستخلص:
أ أن العروج اتجاه إلى أعلى.
ب أن هذا الأعلى لا حد له، إذ يتميز بكونه يجاوز الآفاق والطباق، ولذلك فهو لا نهائي في اتجاهه العلوي، كما أن مجاوزته لا نهائية أيضاً.
ج إن المحبة هي الوسيلة الأساسية للمجاوزة. وهي هنا محبة منسجمة مع اللانهائية، لأنها في أقصى درجاتها إذ هي الشوق والوجود في آن واحد.
د فنلاحظ أن الذات قد تطابقت مع الفضاء اللانهائي الذي تعرج إليه بالشوق والوجد والمحبة المطلقة.
ه وإذا تساءلنا عن مكون الزمن سنجد أنه يتميز باللانهائية أيضاً، إذ لا مسافة للمعراج والآفاق والطباق والبراق تمكننا من أن نقيس فعل العروج بزمن محدد يتميز ببداية ونهاية واضحتين. ولذلك فإنه زمن لا نهائي يتطابق كل التطابق مع الفضاء. اللانهائي، فتتفاعل ضمنهما الذات تفاعلاً لا نهائياً أيضاً، ينسجم لديها مع زمن الشوق الدائم والمستمر، ومع حدود الوجد التي هي اللاحدود.
إننا مع عبدالعزيز محيي الدين خوجة بصدد شاعر مندمج في الكون، يتفاعل معه في كليته، ثم لا يميز بين عناصره، فتصير ذاته جزءاً منسجماً معه ومكوناً من مكوناته. وهو ما نستخلص معه أن الذات الإبداعية لدى هذا الشاعر ذات إنسانية، تعيش كونها في إطار من الشمولية التي لا تميز ضمنها بين لا نهاية العناصر ولا نهاية الإنسان ثم لا نهاية الزمن والفضاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.