تشهد مدينة الرياض في السنوات الأخيرة تزايدًا واضحًا في الازدحام المروري، والذي يعد أحد أبرز التحديات الحضرية التي تواجهها العاصمة، في ظل النمو المتسارع الذي تعيشه. فلم تعد الرياضالمدينة المحدودة كما كانت قبل عقدين، بل تحولت إلى مركز اقتصادي وإداري ضخم يجذب ملايين السكان والوافدين من مختلف المناطق والبلدان. هذا التوسع السكاني الكبير انعكس بشكل مباشر على كثافة الحركة المرورية، إذ تشير المؤشرات إلى ارتفاع سنوي ملحوظ في أعداد السكان والمقيمين، فضلًا عن الأعداد الكبيرة من الزوار للمدينة، ما جعل الضغط على شبكات الطرق والبنية التحتية في تزايد مستمر، رغم الجهود الحكومية المبذولة لتحسين الانسيابية المرورية وتوسعة الطرق وفي إطار هذه الجهود، أطلقت الهيئة الملكية لمدينة الرياض مشروع النقل العام، الذي يضم شبكة متكاملة من خطوط المترو والحافلات. ويُعد مترو الرياض حجر الزاوية في هذا المشروع الطموح، إذ يهدف إلى توفير بدائل نقل حديثة تقلل الاعتماد على السيارات الخاصة، وتسهم في تخفيف الضغط على الشوارع وتحسين جودة الحياة في المدينة. ومع ذلك لا تزال أزمة الازدحام قائمة، خصوصًا في أوقات الذروة عند توجه الموظفين إلى أعمالهم أو عودتهم منها، ففي كثير من الأحيان، تستغرق الرحلة إلى مقر العمل أكثر من ساعة ونصف صباحًا، وساعتين في العودة مساءً، وهو ما يؤدي إلى إهدار الوقت والطاقة ويؤثر سلبًا على إنتاجية الموظفين وجودة أدائهم. اللافت أن جزءًا كبيرًا من هذه الوظائف يمكن أداؤه عن بُعد دون الحاجة إلى الحضور اليومي، خاصة الأعمال المكتبية والإدارية مثل: الكتابة والتحرير، وإدخال البيانات، والتحليل المالي، والتدقيق والمحاسبة، إلى جانب الأعمال البحثية والعلمية التي تعتمد على الإنجاز لا على الموقع الجغرافي. وقد أثبتت تجربة العمل عن بُعد خلال جائحة كورونا نجاح هذا النمط من العمل، إذ غيّرت الجائحة مفاهيم بيئة العمل وأساليب الإدارة، وأظهرت أن التقنيات الرقمية قادرة على ضمان استمرارية الأعمال بكفاءة، عبر الاجتماعات الافتراضية والمنصات الإلكترونية وأنظمة المتابعة الرقمية. ومع مرور الوقت، اتضحت إيجابيات هذا النموذج، مثل: زيادة المرونة في ساعات العمل، وتحقيق التوازن بين الحياة الشخصية والمهنية، إلى جانب تقليل الهدر في الوقت والجهد الناتج عن التنقل اليومي. من هنا يبرز سؤال جوهري: هل يمكن أن يكون العمل عن بُعد أحد الحلول الفاعلة لتخفيف الزحام المروري في الرياض؟ الإجابة تبدو ممكنة إذا ما وُضعت آليات واضحة ونظام منظم لتطبيق هذا الأسلوب في قطاعات محددة، تحت إشراف وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية، بما يضمن الاستفادة من التجربة دون الإضرار بسير الأعمال. فبين شوارع مزدحمة تبحث عن انسيابية، ومدينة تنمو بوتيرة متسارعة، قد يكون العمل عن بُعد خطوة ذكية نحو عاصمة أكثر هدوءًا وإنتاجية، تنسجم مع رؤية السعودية 2030 في بناء مدن أكثر استدامة وجودة حياة أفضل.