عندما تفتح دولة ذراعيها لاستقبال العالم، لا يكون الأمر مجرد استقدام للأيدي العاملة، بل هو احتضان لقصص وحضارات، وقبول بالتنوع كقوة دافعة للنمو، وفي قلب هذا التحول المُلهم، تقف المملكة، عبر رؤيتها الطموحة 2030، لترسم معادلة جديدة قوامها الشراكة الإنسانية أولاً، والتكامل الاقتصادي ثانياً. لقد كرست الإصلاحات الأخيرة مبدأ الاحتواء والتكامل، مؤكدة أن كل مقيم اختار أرضها مسكناً ومساهماً هو شريك في النجاح. هذا «الملف» يناقش كيف غيرت الرؤية مفهوم العمل والعيش في المملكة، وحوّلته من علاقة مؤقتة إلى شراكة استراتيجية مستدامة، من خلال تمكين الكفاءات الأجنبية، وضمان الحقوق، وتوفير بيئة عمل عالمية. الاحترام المتبادل: المملكة تبني مجتمعاً حيوياً يتسع للجميع لطالما كانت القيم السعودية الأصيلة تولي أهمية كبرى للضيف والمساهم، وهذا المبدأ ترسخ بقوة أكبر تحت مظلة رؤية 2030. إن المقيم في المملكة لم يعد يُنظر إليه ك"عامل وافد" فحسب، بل ك"شريك استراتيجي" في عملية التنمية غير المسبوقة. تعتمد المملكة على الكفاءات الأجنبية في مختلف القطاعات الحيوية، من الصحة والتعليم إلى التقنية المتقدمة والمشاريع الضخمة، وهذا الاعتماد يتطلب بيئة مستقرة وودودة، فالتقدير هنا يعني الاعتراف العلني بدور المقيمين في دفع "المسيرة التنموية" وتحقيق المؤشرات الاقتصادية، وهذا النوع من الاحترام والود يغرس شعوراً بالانتماء لا يمكن أن توفره الحوافز المادية وحدها، ويحول تجربة الإقامة إلى تجربة إثراء ثقافي متبادل. الاحتفاء ب14 ثقافة: تعزيز التكامل الاجتماعي والترفيهي إن التحول الاقتصادي في المملكة لا ينفصل عن الركيزة الاجتماعية المتمثلة في بناء "مجتمع حيوي". وفي هذا الإطار، جاءت مبادرة "انسجام عالمي"، التي أطلقتها وزارة الإعلام السعودية في نسختها الثانية، لتكون انعكاساً قوياً لهذا الالتزام. تعدّ المبادرة إحدى محركات برنامج "جودة الحياة" لتحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030، وهدفها الرئيس هو تسليط الضوء على حياة المقيمين في البلاد بمختلف جوانبها: المهنية، والعائلية، والاجتماعية، والترفيهية. إنها اعتراف رسمي بمساهمة المقيمين الفاعلة في الاقتصاد، وقصص نجاحاتهم، وعمق التنوع والثراء الثقافي الذي يضيفونه للمجتمع السعودي. استعراض عالمي في موسم الرياض: تتضمن المبادرة مساراً ترفيهياً ضخماً، يتم تنظيمه بالشراكة بين الوزارة و"هيئة الترفيه"، حيث تستهدف الاحتفاء ب14 ثقافة مختلفة من دول آسيوية وعربية وإفريقية. وتُخصص ليالٍ لكل ثقافة ضمن "موسم الرياض"، وتشمل الفعاليات حفلات غنائية، وعروضاً متجولة، وفقرات ثقافية وترفيهية، بالإضافة إلى الأطعمة الشعبية والحرف اليدوية، مما يبرز أوجه التكامل والانسجام مع المجتمع السعودي. العدالة الناجزة: استقرار العمالة الأجنبية ركيزة الثقة إن أي بيئة عمل لا يمكن أن تنجح دون أساس متين من العدالة وحماية الحقوق. وقد خطت المملكة خطوات واسعة لضمان منظومة تشريعية وقضائية تحمي حقوق العمالة الوافدة والمستثمرين. التركيز ينصب هنا على مفهوم "العدالة الناجزة"، أي سهولة وسرعة وصول المقيم إلى حقوقه القانونية والعمالية، حيث تم تطوير الأنظمة لتبسيط الإجراءات وضمان الفصل السريع والنزيه في القضايا العمالية، مع توفير آليات حماية الأجور، كما أن منظومة الحماية الصحية والتأمين الصحي أصبحت عنصراً أساسياً من جودة الحياة والاطمئنان للمقيم وعائلته، فالتغطية الشاملة بالتأمين الصحي، كجزء لا يتجزأ من متطلبات الإقامة والعمل، تعكس التزام الدولة بسلامة كل من يعيش على أرضها، وهي خطوة جاذبة للكفاءات الباحثة عن أمان وظيفي وصحي. تمكين الأعمال.. إصلاحات هيكلية تعزز الشراكة مع القطاع الخاص كان مفتاح النجاح الاقتصادي في رؤية 2030 هو تمكين القطاع الخاص ليكون القاطرة الرئيسة للتنمية. ولتحقيق ذلك، تم إطلاق حزمة إصلاحات اقتصادية وإجرائية غير مسبوقة تستهدف تسهيل الإجراءات أمام الشركات والاستثمارات الأجنبية والمحلية: بيئة عمل مناسبة: نجح القطاع الخاص السعودي في خلق بيئة عمل مناسبة وجيدة تتنافس مع المعايير العالمية، مما زاد من قدرته على استقطاب الكفاءات الأجنبية. تمكين ريادة الأعمال: تم فتح الباب واسعاً أمام المبتكرين، مع توفير حاضنات الأعمال وصناديق التمويل، مما مكّن المقيمين من تحويل أفكارهم المبتكرة إلى مشاريع على أرض الواقع. تمكين المرأة: عززت الإصلاحات من تمكين المرأة في سوق العمل والمناصب القيادية، وهو استثمار في الكفاءات الوطنية والأجنبية، ومؤشر مهم لبيئة العمل العصرية. المناخ الجاذب يستقطب 676 شركة دولية لم يكن استقدام الكفاءات الأجنبية مجرد سد فجوة وظيفية، بل هو خطة استراتيجية لتوطين الخبرة والمعرفة ودعم مسيرة الاستثمار. إن المناخ الاقتصادي والاستثماري الجاذب هو حجر الزاوية في قرار 676 شركة عالمية بنقل مقراتها الإقليمية إلى المملكة والعاصمة الرياض لتتخذ منها مركزاً لعملياتها، هذا التزايد الهائل يتطلب إمداداً مستمراً من الكفاءات الدولية المتخصصة. توفير برامج الإقامة المميزة جاء لضمان استقرار هذه الكفاءات وعائلاتها على المدى الطويل، وتحويلهم من موظفين مؤقتين إلى مواطنين اقتصاديين دائمين. هذا التوجه يخدم هدفاً أسمى هو توطين الصناعات الكبرى ونقل التقنية المتقدمة، وعندما يعمل الخبراء العالميون جنباً إلى جنب مع الكفاءات الوطنية، يحدث انتقال فعلي للمهارات والمنهجيات، مما يعزز القدرة التنافسية للمنتج السعودي عالمياً. القوة العالمية.. الوزن الاقتصادي للمملكة ودور الشركاء كل هذه الإصلاحات تأتي في سياق تعزيز مكانة المملكة الاقتصادية عالمياً، لقد رسخت السعودية نفسها كقوة اقتصادية صاعدة بفضل تحولها الهيكلي الذي يركز على الاستدامة والتنويع. وأدت الشفافية في الإجراءات، وتطبيق الحوكمة، والأمن الاقتصادي، إلى تعزيز الثقة الدولية في البيئة الاستثمارية السعودية، مما جعلها وجهة موثوقة لرؤوس الأموال الكبرى. كما أن المشاريع العملاقة مثل نيوم تتطلب فرقاً متعددة الثقافات والخبرات، مما يؤكد أن دمج الكفاءات العالمية هو ضرورة استراتيجية للوفاء بهذه التعهدات. عهد الشراكة والمستقبل المشرق لقد أثبتت المملكة، في ظل رؤية 2030، أن الكفاءة لا تعرف حدوداً، وأن الود الإنساني هو اللبنة الأولى لبناء اقتصاد قوي ومجتمع مزدهر. من خلال منظومة الحقوق، والتمكين الاقتصادي، ومبادرات مثل "انسجام عالمي"، نجحت المملكة في تحويل المقيمين من مجرد عمالة إلى مساهمين حقيقيين ومقيمين مستقرين. هذا التوجه نحو احتضان الحضارات والشراكة العالمية ليس مجرد شعار، بل هو برنامج عمل يتجسد في كل إصلاح وقرار، مؤكداً أن المستقبل المشترك في المملكة العربية السعودية يتم بناؤه بسواعد الجميع.