من المسكّنات الموضعيّة التي يضعها المسوّف على آلام إخفاقه محاولةُ الاقتناع بصعوبة الإنجاز، وأنَّه قد يُخفقُ فتكونُ نتيجة الإخفاق ثقيلةً على نفسه محرجةً له أمام الآخرين، وبناءً على هذا فالقعود عن المحاولات أخفُّ كُلفةً، وهذا غلطٌ فالصّعوباتُ لا تعني استحالةَ الوصول إلى النتيجة، وعلى الإنسان أن يبذل الأسبابَ، وإذا بذلها فإما نجاحٌ وإما إعذارٌ.. إذا ابتلي الإنسانُ بضعف الهمَّة والقعود عن طلب معالي الأمور، حاول أن يقتنع بمغالطات تسوّلها له نفسُه، ويخدّر بها مشاعرَه؛ ليبقى راضياً بالإخلاد في الأرض، وحتى لا يُكابدَ وخزات الضمير الناشئةَ عن محدودية أو انعدام إنجازاته، فيضعُ خصالَ التفريط في خانة خصال الوسطيّة، ويُسمّيها باسمها، ومن ذلك أن المسوّف يحاولُ أن يقتنعَ بأنّ تسويفَه من قبيل الأناة المحمودة، فإذا ثابَ إليه بعضُ رشده، وهمَّ بتغيير حاله حدَّثته نفسُه أن هذا وقتُ التّروّي وانتظار الفرصة، وأن الوقتَ لم يزلْ معه، بل تُصوّرُ له أنَّ من يراهم منضبطينَ في شؤونهم منجزينَ لأعمالهم ليسوا إلّا ذوي عجلة، أضاعوا بوصلةَ التخطيط، وإذا نجح أحدهم فذلك من قبيل الصّدفة والحظّ المحض، هذا إن لم يحاولْ مكابرَةَ الواقع بعدم الاعتراف بنجاح النّاجح، والتَّقليل من شأنه، أو ادّعاء أنّه خسرَ من الجهد والوقت أثمنَ ممّا كسبَ، وهذه التّصوُّراتُ خُدَعٌ لتبرير الكسل، وقد يُسوّقها الإنسانُ على نفسه مع أنّه يعي حقيقةَ زيْفها، وهذا يُرْجى له أن يرعويَ يوماً ما، وقد يتمادى حتى تتحكّم في عقليّته، فينسى أنّها من نسج خياله، ولا يستشعرُ الحاجةَ إلى مقاومتها، فتكون له داءً مُزمناً، فمن المهمّ أن لا يخلط الإنسانُ بين مقام التفريط ومقام الاعتدال في أيّ شأن من شؤونه الدينيّة والدنيويّة، ولي مع الأناة والتسويف وقفاتٌ: الأولى: لا مقارنةَ بين الأناة والتَّسويف، بل هما متباينان، فالأناةُ هي التَّثبُّتُ وتركُ العجلة، وهي محمودةٌ، بل هي من الخصال الشريفة التي يُحبُّها الله تعالى، فعن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ للْأَشَجّ أَشَجّ عَبْدالْقَيْس: "إنَّ فيكَ خَصْلَتَيْن يُحبُّهُمَا اللهُ: الْحلْمُ، وَالْأَنَاةُ" أخرجه مسلم، والأناةُ مطلوبةٌ في جميع المواقف سواءٌ منها ما يتعلق بمعالجة المواقف وإدارة المشاعر، أم ما يتعلق بالتخطيط للحياة ومزاولة التصرُّفات، والإقبال عليها ببصيرة وتخطيط، وترك العجلة في القرارات، والأناةُ من ضمن العُدد والآلات التي يحتاجُ الإنسان إلى أن يعدّها للعمل الذي يريد إتقانَه، فتكون على حسب حجم العمل، وتشملُ ضبطَ النفس عن أن تجمحَ بها العاطفةُ العمياءُ إلى ما لم يتمَّ التخطيط الجيدُ له، والاستعانةَ بالله تعالى واستخارتَه، واستشارة ناصح ذي خبرة قبل الشروع في المهامّ، وأن يكونَ المرءُ كيّساً مستحضراً ما عنده من التجارب في هذا الصدد، حتّى لا يُلدغَ في جحر مرّتين، أما التّسويفُ فهو خصلةٌ مذمومةٌ؛ لما تنطوي عليه من إهمال لما خلقَ له الإنسانُ من عبادة ربّه تعالى إن وقعت في العبادات، ولما تُفضي إليه من ضعف واسترخاء إن وقعت في أعمال المعاش، والمسوّف لا يؤخر أعمالَه لتفادي الاستعجال المحذور؛ ولا لأنه يخطّطُ لها أو يعدُّ لها عُدَدَها اللائقةَ بها، ولا يضع لها جدولاً ينفّذها فيه، بل يعيش كلَّ يوم على أحلام اليقظة متمنّياً أن الفرصةَ ستنتظره حتى ينشطَ للعمل، وذلك النشاط مؤجّلٌ دائماً، وكلُّ الأعذار جاهزةٌ لتبرير ذلك التأجيل. الثانية: أسوأ أنواع التسويف: التسويفُ في العبادات؛ لأنَّ كل الأعذار التي يلجأ إليها المسوّف لأمور حياته معدومةٌ في العبادة؛ إذ لا يحتاج فيها إلى تخطيط واجتهاد، فحُسْنُها مجزومٌ به، وما كانَ محدّداً مؤقّتا منها فوقتُه ومقدارُه معلومان، والمضيَّقُ وقتُه معلومٌ والموسّع تنتهي توسعته إلى حدّ معيّن، وما كانَ مرغّباً فيه على جهة الإطلاق فقد رُغِّب في المبادرة إليه، ونُبِّه على أنّه قد يفاجأ بفوات الأوان بلا سبق تنبيه: (وَأَنْفقُوا منْ مَا رَزَقْناكُمْ منْ قَبْل أَنْ يَأْتيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَني إلى أَجَل قَريب فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ منَ الصَّالحينَ، وَلَنْ يُؤَخّرَ اللَّهُ نَفْساً إذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبيرٌ بما تَعْمَلُونَ)، فأكبر النّعم أن يكونَ المسلمُ منضبطاً في عبادته، منافساً للمتسابقين إليها. الثالثة: من المسكّنات الموضعيّة التي يضعها المسوّف على آلام إخفاقه محاولةُ الاقتناع بصعوبة الإنجاز، وأنَّه قد يُخفقُ فتكونُ نتيجة الإخفاق ثقيلةً على نفسه محرجةً له أمام الآخرين، وبناءً على هذا فالقعود عن المحاولات أخفُّ كُلفةً، وهذا غلطٌ فالصّعوباتُ لا تعني استحالةَ الوصول إلى النتيجة، وعلى الإنسان أن يبذل الأسبابَ، وإذا بذلها فإما نجاحٌ وإما إعذارٌ، وتجربةٌ يستفيدُ منها، وربّما أفادتْ غيرَه، والنّجاحُ لا يلزمُ أن يكونَ بالحجم الذي يُرضيه دائماً، بل يحتمل التبعيضَ، وما جاء منه فهو خيرٌ، كما قال القائل: وعليّ أن أسعى وأطلب مكسباً والرزق ما قسم الإله وما قضى ثم إنّه قد يجرّب مجالاً فلا يُفتح له فيه؛ إذ ليست له فيه موهبةٌ، وله في غيره موهبةٌ وقابليّةٌ لو سخّرها لخدمة مجتمعه لعمَّ النفعُ بها، فلا ينبغي له أن يهدرها بالتقاعس والتسويف، ولا يليق بالإنسان أن يرضى بهذا؛ لأنه عيبٌ كما قال القائل: ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام