اليوم تتسارع المعرفة وتتقاطع التكنولوجيا مع الابتكار، ولم يعد التميز مسألة حظ أو موهبة لحظية، بل هو نتاج رحلة طويلة من الإبداع والتفكير العميق والبحث الدؤوب. والنوابغ الذين يشقون طريقهم نحو العالمية، مثل الفائزين بجائزة نوبل، يقدمون نموذجاً حياً لما يمكن أن تحققه العقول المبدعة حين تتوفر لها البيئة والدعم والرؤية. والسؤال الذي يفرض نفسه: كيف يمكن تحويل الفكرة الواعدة إلى إنجاز عالمي يخلّد اسم صاحبه ويخدم الإنسانية؟ النابغة هو من يمتلك قدرة على تجاوز المألوف، على أن يرى ما لا يُرى، وأن يبتكر ما لم يُجرّب بعد. لكن ما يصنع الفارق اليوم ليس التفوق الفردي وحده، بل التفوق داخل منظومة تعليمية وبحثية ومؤسسية ووطنية تساعد هذا النابغة على النمو وتحويل فكرته إلى أثر. فالنابغة لا يُقاس بعدد أفكاره فقط، بل بمدى ما يجد من فرص لتحقيقها. ولهذا فإن الابتكار المؤسسي يشكّل أحد أهم المحركات، إذ يعني قدرة المؤسسة على خلق بيئة تحفّز، وتحتضن التجريب، وتحترم الخطأ كجزء من رحلة التعلّم، وتوفر الموارد والمساندة للباحث والمبدع. عند النظر إلى جائزة نوبل وما ترمز إليه، نجد أنها ليست مجرد وسام علمي، بل شهادة عالمية بأن ما أنتجه شخص أو فريق كان له أثر واسع على الإنسانية. فهي تمثل معيار الإسهام الذي يتجاوز الحدود، والتميز الذي يُقاس بالقيمة لا بالمكان، وبالمنفعة لا بالشهرة. إن الطريق إلى نوبل لا يبدأ من منصة التكريم، بل من مختبرٍ صغير، ومن فكرةٍ مبدعة، ومن إيمانٍ عميق بأن العلم يمكن أن يغيّر العالم. في هذا السياق، تبرز الجهود السعودية كنموذج طموح في بناء منظومة متكاملة ترعى النوابغ وتستثمر في العقول. فمن خلال رؤية المملكة 2030، وضعت القيادة الرشيدة الابتكار والبحث العلمي في قلب مسار التحول الوطني، باعتبارهما الركيزة الأهم في بناء اقتصاد قائم على المعرفة. وأطلقت برامج متنوعة وعديدة واستراتيجية وطنية للبحث والتطوير والابتكار، التي تستهدف أن تكون المملكة ضمن أفضل عشر دول عالميًا في هذا المجال بحلول عام 2040. كما دعمت الجامعات ومراكز الأبحاث بميزانيات ومبادرات نوعية، لتتحول من مؤسسات تعليمية إلى حاضنات للإبداع والاكتشاف. هذا الاهتمام لا يعكس فقط طموحاً وطنياً، بل إيماناً بأن الاستثمار في العقول هو الاستثمار الأسمى للمستقبل، وأن الوصول إلى جوائز عالمية مثل نوبل هو نتيجة طبيعية لمسار وطني علمي متكامل يجمع بين الدعم والتمكين والتطبيق. ومن النماذج الملهمة، العالم العربي عمر ياغي الذي فاز بجائزة نوبل في الكيمياء عام 2025 عن أبحاثه الرائدة في مجال المواد الإطارية المعدنية العضوية. هذه القصة، من نشأته إلى بيئة البحث التي احتضنته، تحمل رسائل واضحة، ان قابلية الوصول إلى التميز العالمي موجودة، والجودة والتخصص هما المفتاح، والمسارات تبدأ محلياً وتنضج عالمياً. ومن هنا يبرز السؤال هل نُعرّف النوابغ مبكراً؟ هل نمنحهم المسار الصحيح؟ وهل نحتفي بهم كقصصٍ يُحتذى بها؟ ولكي نصل إلى ذلك، فإن بناء بيئة بحث محفّزة يعد الخطوة الأولى، من خلال مختبرات مجهّزة، وتمويل مرن، وشراكات دولية، وتحفيز مستمر للطلاب والمبتكرين. كما يجب تعزيز ثقافة التجريب والمخاطرة، فالمشروعات التي تفشل أحياناً قد تكون بذور نجاح أعظم لاحقاً. ويأتي ربط البحث بالتطبيق ليضمن أن تتحول الأفكار الأكاديمية إلى حلول واقعية، في حين تبرز أهمية القيادة المؤسسية الواعية التي تمكّن الباحثين وتمنحهم الثقة لا أن تقيّدهم بالإجراءات. أما الأهم، فهو ترسيخ الرؤية في نفوس الجيل القادم بأن التميز العالمي ليس حلماً بعيداً، بل نتيجة طبيعية لمسار علمي ومنهجي منضبط. إن الاستثمار في النوابغ ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة استراتيجية لبناء المستقبل. فالعقل المبدع هو رأس المال الحقيقي في زمن تتسارع فيه التقنية وتتشابك فيه التحديات. والمجتمعات التي تدرك هذا المبدأ هي التي تنقل طاقاتها من الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن التلقين إلى الإبداع، ومن انتظار الفرص إلى صناعتها. النوابغ ونوبل، تمثلان رحلة فكرٍ وإنجازٍ تبدأ بفكرةٍ تلهم وتكبر حتى تُحدث أثراً يغيّر العالم. إنهما صورةٌ لرؤية أمةٍ تراهن على عقول أبنائها، وتؤمن أن العظمة لا تُقاس بما نملك من موارد، بل بما نصنعه من معرفة. وعندما تتكامل منظومة التعليم النوعي والبحث الموجّه والابتكار المؤسسي، يصبح الوصول إلى نوبل نتيجةً طبيعية لا حلماً بعيداً.