اهتمت دراسات الدعاية التقليدية منذ بدايات القرن العشرين بتحليل الرسائل الدعائية وأساليب الإقناع فيها، مركزة على اللغة، والشعارات، والصور، والتأثير النفسي في الجمهور. فالباحثون درسوا الوسائل التي تستخدمها الأنظمة السياسية والإعلانات التجارية لتوجيه الرأي العام عبر تقنيات التأثير والرمز والإيحاء، غير أن نعوم تشومسكي بالاشتراك مع الباحث الإعلامي إدوارد هيرمان قدما منحى مغايراً في فهم الدعاية، إذ نقلا التحليل من مستوى الرسالة إلى مستوى البنية الاقتصادية والسياسية للمؤسسات الإعلامية التي تنتج الدعاية نفسها، معتبرين أن فهم الخطاب لا يكتمل من دون تحليل القوى التي تحدد ما يتم نشره. نعوم تشومسكي هو أحد أبرز المفكرين الأمريكيين في القرن العشرين، عُرف بأعماله في اللسانيات والفكر السياسي ونقد الإعلام، بينما إدوارد هيرمان هو أستاذ اقتصاد سياسي وناقد إعلامي مهتم بعلاقات الشركات الكبرى بالسياسة. اشتركا في تأليف كتابهما الشهير بعنوان (صناعة التوافق: الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام) والذي صدر في عام 1988م، ويعد من أهم المراجع النقدية في تحليل الإعلام الحديث. يقدم الكتاب ما يسميه المؤلفان (نموذج الدعاية) propaganda model لتفسير كيفية عمل وسائل الإعلام الكبرى في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة. فبدلاً من تصور الإعلام كسلطة رابعة مستقلة، يرى تشومسكي وهيرمان أنه جزء من النظام الاقتصادي والسياسي، يؤدي وظيفة تبرير السياسات الرسمية وتشكيل الرأي العام بما يخدم مصالح النخبة. هذا التحليل يستند إلى مفهوم (الاقتصاد السياسي للإعلام) أي دراسة العلاقة بين ملكية وسائل الإعلام، ومصادر تمويلها، والقوى الاقتصادية والسياسية التي تتحكم في مضمونها واتجاهاتها. وفقاً للنموذج، تمر الأخبار بخمس (فلاتر) أو (مصافي) تحدد ما يُنشر وما يُستبعد، الفلتر الأول هو (الملكية): فالإعلام مملوك لشركات كبرى، وبالتالي يخدم مصالح الملاك والمستثمرين. في الثمانينات مثلاً، كانت شبكات مثل CBS وNBC جزءاً من شركات ضخمة تتعامل مع الحكومة، مما جعلها تتجنب نقد السياسات الاقتصادية الأمريكية، اليوم يمكن رؤية ذلك في سيطرة شركات التكنولوجيا مثل: غوغل وميتا وإكس (تويتر) على تدفق الأخبار. الفلتر الثاني هو (الإعلانات): إذ تعتمد وسائل الإعلام على الإعلانات كمصدر أساسي للدخل، مما يجعلها تتحاشى نشر مواد قد تنفّر المعلنين، المثال الكلاسيكي هو امتناع الصحف عن نشر تقارير بيئية قد تضر بشركات السيارات أو النفط. الفلتر الثالث هو (المصادر الرسمية للمعلومات): حيث تميل الصحافة إلى الاعتماد على بيانات الحكومات والمؤسسات الكبرى باعتبارها مصادر موثوقة، مما يمنح هذه الجهات سلطة في تحديد أجندة الأخبار. والفلتر الرابع هو (الضغوط والهجمات المنظمة): التي تمارسها الجماعات السياسية أو الاقتصادية ضد وسائل الإعلام التي تنشر مواد مخالفة لمصالحها، عبر الحملات القانونية أو الإعلانية أو حملات التشويه. أما الفلتر الخامس فهو (العدو المشترك): أي خلق صورة (التهديد الخارجي) لتوحيد الرأي العام خلف السلطة، كما حدث في فترة الحرب الباردة أو في (الحرب على الإرهاب) رغم تأثير هذا النموذج، تعرّض لانتقادات أهمها أنه يميل إلى الحتمية الاقتصادية ويقلل من قدرة الصحفيين والمجتمعات على المقاومة والتنوع في الخطاب الإعلامي، كما أنه لا يفسر ظهور منصات الإعلام الجديد المستقلة نسبياً عن المؤسسات الكبرى. مع ذلك، ما زال نموذج تشومسكي وهيرمان يحتفظ بأهميته في عصر الإعلام الرقمي، إذ يساعد على فهم كيفية استمرار هيمنة القوى الاقتصادية والسياسية في إنتاج الخطاب العام، وإن تغيّرت أدواتها من الصحف التقليدية إلى خوارزميات المنصات الرقمية. فهو يذكّرنا بأن حرية الإعلام لا تتحقق بمجرد وفرة الوسائل، بل بقدرة المجتمع على مساءلة البنية الاقتصادية والسياسية التي تصنع التوافق.