تقدّمَ في المقال السابق ارتباط تحقيبات ميشيل فوكو أصالة بعلاقة الفكر باللغة، من حيث هي مكوّن كاشف للفكر المجتمعيّ وممارساته، وما اتصل به من الممارسات الخطابيّة وغير الخطابيّة، وأنّ اللغة في عصر النهضة هي «المنطوق» وإبستميتها «التشابه»، وفي العصر الكلاسيكي هي «الخطاب»، وإبستميتها «التمثيل»، وذلك ارتكازاً على دراسة الزواوي بغوره. أمّا في العصر الحديث فقد نحى فوكو لوسم اللغة ب»الكلام»، وإبستميتها «نظام اللغة الذاتي»، ومجالها «فقه اللغة»، ومظلة حقوله المعرفية «علم اللغة المقارن». ففي العصر الحديث توقف دور «التمثيل» المعرفي، ودور «الخطاب» اللغوي؛ أي توقفت فعالية العصر الكلاسيكي، وحصلت القطيعة باستبعاد دور اللغة وإبستميتها السابقين في العصر الحديث، فحلّ مجال «فقه اللغة» محلّ «النحو العام»، من خلال منظومة الإعراب (إطار النحو المقارن)، وظهرت حقول معرفيّة أخرى، نحو: الاقتصاد السياسي، البيولوجيا، بجوار «فقه اللغة». فهو عصر امتاز بالمساواة بين جميع اللغات، وارتبطت فيه اللغة ب»الذات» ونشاطها، وهذا أنتج الوظيفة التعبيرية، الإيضاح وترجمة الإرادة كما عند همبولت، وارتبطت بروح الشعب الذي صنعها، كذا بحريّة الإنسان لا مجرّد معرفة الأشياء. وبالتبع تغيّرت إجراءات تدريس اللغة، فصارت تدرّس ضمن النحو المقارن، والبحث عن منطق جديد في ظل تعدد اللغات، وظهور دعوة إلى لغة كلية تشمل اللغات، وكذا مناهج جديدة في التفسير والتأويل. والأهم، استعاد الكلام كثافته بما فيه من إلغاز، بعد أن كانت اللغة منكفئة على ذاتها في العصر الذي سبقه، وتروم الوضوح العباريّ. فدرس فوكو التأويل والتشكيل من خلال أعمال ماركس، ونيتشه، وفرويد، ليبين تقنيتاهم، لوصف التأويل في القرن التاسع عشر، فظهر له أن للعلامة بعد جديد هو «السطح» (عند ماركس يظهر في السلعة الأولى، وعند فرويد في الحُلم، وعند نيتشه ليس هو الجوهر والماهية)، فتعقّد النظر ل «العلامة»؛ من حيث استصحاب المسافة بين السطح والعمق، وما يُضمَر وما يُظهَر، فالعلامة لا تعكس المضمر ضرورة، وهي عند ماركس علامة «النقود» التي لا تعكس القيمة، وعند فرويد «الشعور» لا يعكس اللاشعور، وعند نيتشه «الكمالات الخُلقية». فثمّ تفاوت بين ما يظهر وما يكمن، وهذا الفاصل هو محلّ التأويلات؛ كل بحسبه. ويذهب بغوره إلى أن اللغة لم ترتبط بالفلسفة إلا مؤخراً في العصر الحديث عند فوكو، عند تقاطعات بين البنيوية والظواهرية وفقه اللغة، فصار لكل جانب اشتغاله، الذي به تتواشج العلاقات لتكوين إبستمية «فقه اللغة»، ليفلسف فوكو مع نيتشه اللغة وصلاً بين مسألتي «الكينونة» و»التناهي»، بين الإنسان واللغة، فحلّ الإنسان محلّ الخطاب، إذ اللغة تتيح له اكتشاف نفسه حينما يفكّر في أعماقه أو عالم أعمق وراء تفكيره، وهي سابقة له، وتحاصره. والبعد اللغوي لا يتساوى مع البعد الإنساني، ليؤول الأمر إلى مسألة «موت الإنسان»؛ والتي يتبيّن للمتأمل فيها أنّ أصلها مضمر وهو استبطان الفصل بين الفكر واللغة فصلاً اتخذ «المطابقة» أصلاً للعلاقة بينهما، فإن لم يتطابقا فقد افترقا! فالعلاقة بين اللغة والإنسان في أصلها طرح فلسفي لا علمي لساني أو نسقي، ففوكو منقسم بين تأملات فلسفية لا علمية فيها، ومستفيد من منجزات علمية في العلوم الطبيعية والإنسانية، وهذا الوسم العام لتحقيبه المؤسس لرؤيته لتاريخ الأفكار، والذي انعكس بطابعه الأنطولوجي والفلسفي على دراسته للغة، وفق ثلاثة مستويات: المستوى الذاتي والأدبي، والمستوى العلمي والتاريخي، والمستوى الفلسفي. وحينها يتبيّن أنّ أي أدوات يقدّمها فوكو أدوات تأويلية، والأدوات التأويلية تتبع -ضرورة- كل إنسان كيفما فكّر، ولغته، ومحيطه. فهي أقرب للتخرّصات منها للخطوات العلميّة التي تصدق في جلّ ما تطبّق عليه في أحوال وشروط محددة. وهذا استحضار ضروري عندما تُطبّق أدوات ميشيل فوكو في الدراسات الإنسانية المختلفة، خصوصا أداة «السلطة والمعرفة».