مثلما أن هناك رواية تبحث عن موضوع مثير ثم يتضح تكلفها وافتعالها في الغالب، هناك ربما نقد يبحث عن موضوع للإثارة ثم يتضح تكلفه وافتعاله في غالب دروسه. وأرى أن حوار النقاد الذي يجري الآن في بعض الندوات ومواقع التواصل الثقافي حول موضوع التفاهة والرداءة والجماهيرية، ينطبق على القصيدة أكثر من الرواية. ونلاحظ أن هذا النقد الأدبي والثقافي بأسمائه القديرة المعروفة، يحوم أكثر حول القصيدة وليس الرواية، بعد الانطفاء النسبي لبريق القصيدة والنقد المصاحب لها، مع انطفاء الصحف الورقية التي أعطته في عقود ماضية مساحات مبالغاً فيها للكتابة عن القصيدة. وفي فن الكتابة بشكل عام، ربما تكون عبارة نقدية لامعة ومتقنة مثل: كمال ناقص وإتقان صقيل يقتل الومضة. تنطبق على القصيدة أكثر من الرواية. وقد يكون القصد هو الضعف الفني الطبيعي في النص الروائي، المصاحب لصغر التجربة مع أصالة واضحة وهذا يؤكد تلقائيته وبصمته بغض النظر عن مستواه، والفن المبدع لا يكتب على السطر ولا يرسم بالمسطرة، وهذا ينطبق على الحبكة التقليدية المتكلفة والصارمة في الرواية المعاصرة، حين تغلق النص على موضوعه، وتقيد حريته الخاصة وهويته الخاصة، وتحد من انطلاقته نحو آفاق إبداعية مغايرة، هذا يعني أنه بحاجة إلى رؤية تجديدية تحرره وتطلقه نحو مسارات إبداعية حيوية جديدة، ونحو هواجس الإنسان وأسئلته وتأملاته وأحلامه وهمومه، والهدف الأساسي من التجديد ليس مجرد التغيير والتجريب، لكنه ضرورة فنية لمحاولة البساطة والتكثيف والإيجاز والعمق، والوصول السهل والبسيط والعميق إلى القارئ، وهذا التجديد له علاقة كبيرة بحذف كل الأحمال الزائدة والوصف الطويل والمعلومات والتفسير والإيضاح في الرواية، وهو باختصار حذف كل ما يعرفه القارئ والإبقاء فقط على الذي لا يعرفه، ومحاولة الإيجاز والبساطة هي التي تقود فن الكتابة إلى العمق والتشويق والإثارة. وهي محاولة المعادلة الصعبة بتقنية البساطة والعمق لتصل كتابتنا إلى عامة القراء وليس إلى النخبة من الكتاب والكاتبات والنقاد فقط، والبساطة في اللغة لا تعني الوقوف على السطح لكنها أيسر الطريق إلى العمق دون تكلف لغة البلاغة، وهي عناصر فكرة الرواية الناجحة والأكثر مبيعاً، لو فكرنا بهذه المسألة، باعتبارها من أهم العناصر التي يبحث عنها قارئ معاصر أيضاً. هذا القارئ الذي يكتب في مواقع القراءة ومنصات وسائل التواصل عن روايات تعاني من التكرار والأحمال الزائدة ومن لغة تبالغ في البلاغة، هذا له علاقة بالأسلوب حتى يصل بلغة بسيطة وممتعة، ومثل هذا النوع من الكتابة قليل لأنه نوعي ورفيع، وفيه بصمة الكاتب في مشاهده وفصوله وموضوعاته، دون الحاجة للمبالغة في اختراع موضوعات، ذلك أن الفن وقدراته المدهشة هو القادر على تحويل المشاهد اليومية في حياتنا والموضوعات العادية والمألوفة إلى موضوعات غير عادية وغير مألوفة. هو القادر على استخراج الفرادة من المشهد العادي، والكاتب الفنان هو الذي يستطيع أن يجدد في روايته، وليس مجرد كاتب لديه قدرات تعبيرية فقط، كاتب صاحب مزاج فني خاص وقدرة على الملاحظة الفنية والنقدية، وربطها بتجربته وقراءاته في الحياة وفي الموسيقى والسينما وقصيدة النثر وأسئلة التأمل والفلسفة على سبيل المثال. والملاحظ أن هناك غضباً نقدياً من هذه الكتب الروائية التي تصدرها دور النشر السعودية والعربية، مع أن هذه الإصدارات تكشف مرحلة فيها نهضة أدبية تعبر عن ازدهار أدبي واضح وكبير ومفرح، على اعتبار فني متعارف عليه أن الكم من هذه الروايات هو الطريق إلى الكيف القليل الرفيع والمبدع، ولهذا ومن خلال قراءات جادة يمكن القول إن بعض الروايات العربية والسعودية التي صدرت في السنوات العشر الأخيرة، حققت نقلة نوعية في مستوياتها الفنية، من طريق اللغة المكثفة والمقطرة بأسلوب بسيط فيه عمق وجمال، وفيه محاولة رصد المشاعر العميقة للشخصيات دون تكلف ومبالغات ودون أحمال إنشائية زائدة أو صفحات استرسال وتفسير بلا داع ودون قصدية موضوعية مباشرة ونبرة صوت عالية، روايات اتضح فيه التخلي النسبي عن عناصر صارمة، مثل الحبكة والمغزى والهدف والرسالة المباشرة المقصودة، لذلك تميزت هذه الأعمال بالحيوية وحرية الحركة، واحتفظت بمستواها القوي والممتع حتى نهاية الكتاب، وهذه الرواية تجاوزت في بعض نماذجها القليلة النمط التقليدي الآلي المتكرر، وقدمت لنا روايات حيوية متجددة في رؤيتها وحرة في تنوع طرائق وأساليب تعبيرها. والدليل مستوى روايات القوائم الطويلة في جائزة البوكر العربية في السنوات العشر الماضية، وكذلك حضور بعض الروايات السعودية التي كسرت سيطرة الرواية التقليدية الإنشائية الجيدة والمحكمة الحبكة، وقدمت لنا روايات حيوية متجددة في رؤيتها وحرة في تنوع طرائق وأساليب تعبيرها بمقدرة فنية عالية وعلى دراية بأسرار فن الكتابة، وتعطينا انطباعاً عن التقدم خطوة فنية كبيرة إلى الأمام للرواية السعودية والعربية. يتحدث النقاد الآن عن روايات جيدة وروايات تافهة ثم يغيرون رأيهم ويستبدلون كلمة تافهة بكلمة رديئة، وأرى من وجهة نظر أدبية، أن توصيفات مثل تافهة أو رديئة هي لغة غريبة وخارجه عن الأدب وليست نقداً وأستغرب هذا من نقاد يقحمون نصوص الأدب في مفردات عجيبة وغير أدبية ويختلفون عليها، صفات مثل تافه ورديء، وأرى أنه لا يوجد روايات تافهة أو رديئة، الموجود في مكتباتنا ومعارض الكتب ودور النشر روايات تتراوح مستوياتها بين ممتازة وجيدة ومتوسطة وضعيفة فقط، وهذا موجود في كل مكتبات العالم، وسوف تظل هذه المستويات متغيرة ومتجاورة إلى الأبد، ولا علاقة للكاتب والقارئ بمحتوى تافه أو رديء، التفاهة تعني محتوى بلا قيمة وبلا معنى والرداءة تعني السوء وهذه لفظة تسيء للنص وليست نقداً فنياً وهي قد تمس النص في أخلاقه وليس مستواه الفني. وفي عالم الأدب بشكل عام لا يوجد إقبال جماهيري مبالغ فيه، مثل الإقبال على فن الموسيقى والتمثيل ونجومه. وإذا كان هناك روايات وجدت القبول الجماهيري وروايات لم تجد إقبالاً كبيراً فهذا قد يكون أمراً موقتاً، وهناك مثل في الأدب العالمي عن روايات رجع لها القراء بعد سنوات من الإهمال الإعلامي، وحققت جماهيرية عالمية كبيرة ومبيعات مليونية مثل روايات كافكا على سبيل المثال، ربما لأنها جمعت الواقع والخيال في رواية، وأغلقت الباب على من يظن أن هناك روايات واقعية من جهة، وروايات خيالية من جهة أخرى، وهناك أيضاً روايات حققت جماهيرية موقتة ثم غابت من ذاكرة القراء، والإقبال الآن على روايات الرعب والجن والأساطير والسحر والجريمة وهذا ليس غريباً، وهو موجود في كل العصور وفي آداب كل الأمم، والمهم هو مستوى الرواية في اللغة والأسلوب والموضوع والأفكار. ومثل هذه المبالغات النقدية المثيرة ليست سيئة، لكنها لا تضيف شيئاً مهماً، لأنها تعيد المعاد وتكرر المكرر القديم عن الفن للفن، وأحياناً تحاول اختلاق قضايا أدبية من لا شيء، وهذا ربما يكشف عن البساط الذي سحبته الرواية من كل الأجناس الأدبية، وجعلت البعض يبحث عن الجماهيرية من موضوع الجماهير والنخبة.