العدد الذي خصّصته مجلة "ألواح" أخيراً ل"الأدب العربي الرديء" يستحق وقفة وربما قراءة متأنّية نظراً الى جرأة طرح هذا الموضوع أولاً ثم الى "الإشكال" الذي يثيره انطلاقاً من التباسه أو هجانته. المجلّة عربية تصدر في مدريد ويترأس تحريرها كاتبان عراقيان هما: محسن الرملي وعبدالهادي سعدون. ولعل صدورها خارج العالم العربي يمنحها هامشاً كبيراً من الحريّة كونها بعيدة من متناول الرقابات العربية على اختلافها. غير أنّ المجلّة لم تستفد كثيراً من هامش الحريّة في عددها الجديد، إذ لم تنشر، كما وعدت قراءها، النصوص التي يتمّ الاتفاق على أنّها رديئة، وذريعتها أنّها وجدت تلك النصوص "كثيرة ويصعب حصرها" ومن بينها روايات ودواوين ودراسات... هكذا فقد "العدد" للفور بعضاً من جرأته أو صدقيّته، إذ يصعب الكلام على "الأدب العربي الرديء" من دون تسمية بضعة أعمال ترسّخ هذه المقولة. ناهيك بإخفاق "المجلة" في دعوتها الى نقد النصوص الرديئة "مهما يكن لأسماء مؤلّفيها من طنين وصنمية". قد يحقّ لأسرة المجلّة أن تخشى الوقوع في ما تسمّيه "تصفية حسابات" يقوم بها بعض المشاركين في "الملف". وهذه "التصفية" ليست مستغربة أصلاً في "المعتركات" الأدبية العربية، المقيمة والمغتربة، والتي يبلغ العداء فيها حدّ الالغاء والقتل المجازيّ و"الإعدام" الرمزي. لكنّ هذه "الخشية" لا تلائم "ملفاً" في هذه الجرأة وهذا الطموح. ثم ان معالجة قضية "الأدب العربي الرديء" نظرياً وبعيداً من النصوص والشواهد تبدو ضرباً من الكلام الذي لا طائل فيه. فالنصوص في مثل هذا النقد لا يمكن اغفالها أو تجاوزها، فهي المنطلق والمآل في آن واحد. غير أنّ بعض المداخلات لم تخلُ من تسمية بضعة أسماء قليلة ومنها مثلاً محمد شكري الذي اختاره أحد النقاد مثالاً للأدب الرديء وقارن بين روايته "الخبز الحافي" ورواية نجيب محفوظ "زقاق المدق" منتصراً للأخيرة وواصفاً إياها في كونها "تعبيراً أدبياً عن رداءة الحياة" فيما "الخبز الحافي" بنظره هي "تعبير سطحي ومباشر عن طنجة ما بين الحربين" أي في معنى آخر "تعبير رديء عن الرداءة". ويتعرّض ناقد آخر للرواية التي يكتبها الشعراء معتبراً إياها مظهراً من مظاهر "الأدب الرديء"، إذ ان الشعراء في نظره "يعتقدون بأنهم الأجدر للإطاحة بإنشائية الرواية الفجّة معتدّين بالسيد سليم بركات، ذلك المشعوذ الكبير"، هكذا يقول حرفياً. ويفاضل ناقد آخر بين روايتين لفاضل العزاوي معتبراً إحداهما "مخيّبة للآمال" ويقصد "كوميديا الأشباح" فيما الأخرى آخر الملائكة ذات "إبداع جليّ". وقد يسأل قارئ ما: لمَ ذكرت هذه الأسماء فقط في جريرة "الأدب الرديء" ولم تذكر الأسماء الأخرى التي أبت "المجلّة" نشر نصوصها الرديئة تحاشياً للوقوع في شرك "تصفية الحسابات"؟ ترى، هل يمكن وضع هذه الأسماء الثلاثة في سياق ظاهرة "الأدب الرديء" وهي من هي في عالم الأدب العربي الحديث؟ ثمّ مَن هم هؤلاء النقاد الذين يزعمون أنّهم قادرون على مثل هذا التصنيف الذي يفتقر الى الموضوعية والمعرفة والوعي النقدي؟ مَن يقرأ مداخلات العدد تتأكد لديه استحالة تحديد الأدب الرديء على رغم السهولة التي تتبدّى للوهلة الأولى، في تحديده أو وصفه. لكنّها سهولة "شائكة" ومحفوفة بالكثير من الحذر والالتباس. فما هو الأدب الرديء؟ ما هي مواصفاته؟ ما هي المعايير أو المقاييس التي يمكن اعتمادها للوقوف على هذا النوع من الأدب؟ هذه الأسئلة وسواها طرحها بعض المشاركين في "الملف" ولم يتمكّنوا جميعاً من الاجابة عنها ولا من اقناع القارئ بما حاولوا أن يوجدوا لها من أجوبة. يسأل أحد المشاركين: هل الذائقة وحدها هي التي تحدّد الرداءة، وهل الذائقة واحدة لدى الجميع؟ ويدعو آخر الى تحديد "مفاهيم" الأدب الرديء متسائلاً: "مَن الذي يحدّد الرداءة؟". وفي نظره أن التعريف ب"الرداءة" يحتاج الى تشخيص مواصفات الجودة، ما يتطلّب "الخوض في منطقة إشكالية عامرة بأسئلة أخرى". وإذ يرفض هذا الناقد مقولة "أدب رديء" يقترح استخدام عبارتين أخريين هما: "كتابة رديئة" و"كتابة جيدة". ترى، هل تتمثل "الكتابة الرديئة والأكثر رداءة" في "مدح الحاكم" كما يقول أحد النقاد في "الملف"؟ ما تراها تكون حينذاك حال قصائد المديح التي تحتل جزءاً كبيراً من التراث الشعري العربي القديم، وبعضها من عيون هذا التراث؟ وإن كان "اللهاث المحموم خلف سراب الجماهيرية" كما يعبّر أحدهم، حافزاً على "الأدب الرديء" أو الكتابة الرديئة فكيف يمكن تصنيف الشعر الجماهيري الذي كتبه شاعر مثل نزار قباني؟ وإن كانت "الملاحقة الخبرية للأحداث ونمذجتها في شعر سياسي لا يأخد من الشعر سوى ترنيمات الايقاع وتوقيعات القافية" مظهراً من مظاهر "الكتابة الرديئة"، فإنّ الكثير من الشعر الفلسطيني وخصوصاً شعر "ثورة الحجارة" سيقع في خانة هذه الكتابة! يعزو أحد النقاد في "الملف" الكتابة الرديئة الى افتقار الكتّاب الرديئين طبعاً الى "أدوات الكتابة والوعي بها" والى عدم امتلاكهم "رؤية واعية لمعنى الكتابة" والى عدم معرفتهم "متى يصبح الإسم مرفوعاً ومتى يكون منصوباً". قد تكون هذه المقاييس - التهم صحيحة وفاعلة في الحكم على النصوص الرديئة، لكنّها ستشمل الكثير من النصوص والقصائد الحديثة التي تمجّد الركاكة وتتمرّد على الفصاحة والبلاغة، معتبرة أن قوّة اللغة إنما في ضعفها وهزالها! وهكذا تقع تهمة الرداءة على نتاج عدد غير قليل من الشعراء والروائيين الجدد الذين يصنعون جزءاً من المشهد الشعري والروائي العربي الراهن! أما اعتبار غياب الديموقراطية أو تغييبها عن المجتمعات العربية واحداً من أسباب رواج الرداءة في الأدب والثقافة فهذا أمر غير مقنع تماماً. ويكفي تذكر "الكتابة الآلية" لدى السورياليين أو الكتابة الدادائية وقد راجتا بحرية تامة في مرحلة ما بين الحربين ومرحلة ما بعد الحرب الثانية. وقد تكون الكتابة الدادائية من أشدّ الأنواع رداءة وفق ما افترض الشاعر المؤسس تريستان تزارا من شروط لصنع قصيدة دادائية. وهي تقوم على تقطيع كلمات مقال من جريدة ثم بعثرة الكلمات ثم جمعها عشوائياً حتى تكتمل القصيدة. ولا بدّ من التذكّر أيضاً أن الكثير من الأدب العالمي العظيم كتب في جوّ من الارهاب السياسي والتسلّط والديكتاتورية وليس في مناخ ديموقراطي. والشواهد أكثر من أن تحصى. أدب رديء أم أدب جيد؟ إنه السؤال الذي لا يستطيع أن يجيب عنه إلا التاريخ! فكم من نصوص حكمت بالرداءة في عصرها وما لبثت أن أصبحت من الآداب العظيمة. وكم من نصوص كانت سيدة عصرها ما لبثت أن أضحت من رميم الأدب! لندع التاريخ إذاً يطلق حكمه!