إن العمل على بعث النظريات العربية القديمة ثم تطبيقها عمليًا قد يخلق نوعًا من التماس الوجداني؛ لأنها نبتة نبتت من طينته وتتلامس معه وتتجاوب مع حسه هو دون غيره، ذلك لأن الإحساس ينتج من أن العنصر في الشيء المدرك يرسل إشعاعاً يتصل بالعنصر المشابه في حاسة الإنسان.. حينما قمنا بالشرح والتحليل لبعض آراء النقاد والفلاسفة الغربيين وتتبع رؤاهم في المجلد الأول والثاني من موسوعتنا (نقد النقد)، لم يخفَ علينا ذلك الوهج بين ثنايا فكرهم لآراء النقاد العرب القدامى، وهم يستقون منه مبادئهم وآراءهم بلا هوادة، ويبدو أن بُعد الناقد العربي عن تاريخه الأدبي أو انبهاره بآراء النقاد الغربيين، قد جعله ينحى إلى اعتناق هذه الآراء متناسيا أن أصولها عند النقاد العرب القدامى، دون البحث والتقصي بما لديه من إرث قديم. وقد نستطيع أن نقول إن الوقت لم يحن بعد لوضع تاريخ أدبي صحيح يتناول آدابنا العربية بالبحث العلمي والفني! فالنظريات النقدية الغربية تزاحمت في رؤوس النقاد العرب المحدثين حتى أزاحت كل الأفكار النقدية العربية القديمة ومبدعيها، وذلك يرجع إلى عدم البحث والتدقيق والاطلاع على القديم وإلى الانبهار بثقافة الغرب من أجل التماهي الثقافي والنخبوي. فهذا باختين ولوكاكش ودريدا وفوكو وتايللور وجولدمان وغيرهم ممن اتخذهم النقد العربي الحديث مرجعا ومنهجا جديدا ولم يتبادر إلى أذهاننا أن بذورهم تمتد في أعماق النقد العربي القديم -كما أسلفنا- وهذا ما نتج بعد بحث كبير في موسوعة نقد النقد. يقول طه حسين في كتابه الأدب الجاهلي: "كيف تريد أن تضع تاريخ الأدب العربي وأنت لم تستكشف ولم تحقق ولم تفسر كثرة النصوص العربية القديمة في الجاهلية والإسلام؟ وكيف تريد أن تضع تاريخ الأدب ولم يدون للغة العربية فقهها على نحو ما دون فقه اللغات الحديثة والقديمة؟ كيف تريد أن تضع تاريخ الآداب العربية وما تزال شخصيات الكتاب والشعراء والعلماء مجهولة أو كالمجهولة، ولا نكاد نعرف منها إلا ما حفظته الأغاني وكتب المعاجم والطبقات؟". وإنه لمن المجحف في القول إذا ما قلنا إنه لم يتناول أحد هذا الإرث القديم بالنقد والتحليل، ولكن هذه التناولات لم تتعدَ الإطار النقدي القديم؛ إذ لم يعرض جل هذه الكنوز من النظريات النقدية من خلال دراسة حديثة وقراءتها حسب المفاهيم النقدية المعاصرة وإنصافها وإبراز ما لها من سبق، فلم نرَ تصديًا لغزوات مرجليوث لهذه الكنوز سوى شذرات، بل تعدى الأمر إلى الإساءة إليها سوى عدد لا يتعدى أصابع اليد الواحدة بل أقل. ثم يقول سالف الذكر: "إن تاريخ المذاهب والآراء لم يتجاوز كتاب الملل والنحل وما يشبه كتاب الملل والنحل، وآداب الكثرة من الأمم الإسلامية التي تكلمت العربية مجهولة أو كالمجهولة، لا نستثني من ذلك إلا هؤلاء الذين عاشوا في الشام والعراق والحجاز أثناء القرون الثلاثة الأولى بعد الإسلام".. وقد نادى كثير من أساتذة النقد بإجراء الأبحاث على ما لدينا من ثروات وذلك كفيل أن يصبح النقد العربي في كفة الميزان النقدي العالمي. وفي مؤتمر التداخل الحضاري والاستقلال الفكري يقول مجدي يوسف: "إن اطلاعنا على أدبيات الغير واجتهاداته المتميزة لن يكون مفيداً لنا إلا إذا عاوننا على اكتشاف الجوهر العقلاني المبدع في ثقافتنا العربية". فلقد كان للعرب القدامى سبق -كما أسلفنا- في تناول الأعمال الإبداعية بالنقد والتحليل، بالإضافة إلى أن آراءهم النقدية تمتزج بآرائهم الفلسفية، إلا أنهم يستنبتون الفكر ثم يطرحونه بفكر مغاير لما يتناسب وواقعهم وبنياتهم المجتمعية والسياسة والنفسية أيضاً، والتي تشع بها أرجاء فكر وفلسفة الأدب المعاصر. إن العمل على بعث النظريات العربية القديمة ثم تطبيقها عمليا قد يخلق نوعا من التماس الوجداني؛ لأنها نبتة نبتت من طينته وتتلامس معه وتتجاوب مع حسه هو دون غيره، ذلك لأن الإحساس ينتج من أن العنصر في الشيء المدرك يرسل إشعاعاً يتصل بالعنصر المشابه في حاسة الإنسان. هذا التواصل في العملية المعرفية ينتج من ذلك التماس الإشعاعي بين الذوات حينما يعتريها الإحساس المشترك، وقد عزز هذا القول أيضاً الفيلسوف اليوناني ومؤسس النظرية الذرية (ليوكيبوس القرن الخامس قبل الميلاد) حينما قال: "إن الذرات ترسل إشعاعاً يؤثر على النفس فيحدث الإدراك". وهذا ما تعتمد عليه فلسفة القرن الواحد والعشرين "فلسفة النانو" وخاصة في علوم الاتصال، فعلم الطاقة بات جليا في علوم القرن الواحد والعشرين بالرغم من إشارة الفلاسفة القدامى له -كما أشرنا-، ثم إن بعض منظري علماء النفس قد أكدوا لنا ذلك في تلك اللحظة الخاطفة التي يرى الدكتور مصطفى سويف أنه لا يكمن اقتناصها لأنها ومضات استبصار معرفية غاية التعقيد. هذه الوسائل (التمثيل والتجسيم والوصف والتعبير) ليست إلا وسائل في خدمة مضمون الخبرة الجمالية، وهذه الوسائل بشهادة الفنان نفسه عاجزة عن أن تقتنص في شباكها مهما ضاقت حلقاتها كنه هذه البارقة السريعة التي تهز طاقتها نفس الفنان كما تهز على السواء نفس المتذوق. إذًا هناك محركان أساسيان في التلقي، وهما الطاقة الذاتية وطاقة الضوء. وقد أشرنا فيما سبق "الكوانتم" وهو إمكانية توظيف الضوء عن طريق تكنولوجيا واستغلال الحزم الضوئية في التلقي المعرفي، بالإضافة إلى تحريك الطاقة الناجمة عن العناصر المرسلة. وبما أننا معنيون بالمسرح، فإن ما نراه في مسرح اليوم هو عدم تمكن المسرح العربي من أدواته لكي يحدث هذا التماس المعرفي ومتعة المعرفة، وبالتالي إذا لم تتلامس هذه الطاقة المرسلة مع الطاقة المستقبلة ذهبت كالنهر المتدفق في صحراء قاحلة. والتماس في المسرح العربي يحدث حينما يكون هناك تشابه وتطابق في تلك الأشعة المنبعثة، ألا تكون الرسالة غريبة عن منبتها الأصل والذي يتمثل في طاقة المتلقي المعتمدة على العقيدة والوجدانيات والتي تؤدي إلى ما يسمى ب"الانزلاق الوجداني"، ومن هنا تكون التربة المُنبِتَة لكلا الطرفين هي ذلك الحس المشترك. ألا توجد لدى عامة الناس وسائل فنية تلقائية للتعبير عما يريدون توصيله للآخرين؟ طبعاً توجد، ولكن: كيف تستخرج هذه التلقائية العفوية القابعة في أعماق الناس العاديين كي تصبح طاقة إبداعية متجسدة في تواصلها غير العادي "الفني التجريبي" مع الآخرين؟ لا يمكن لهذه الطاقة العفوية أن تظهر إلى الوجود إلا إذا كانت تعبر عن شيء حقيقي يشغل المعبرين عنه بصورة غير "عادية" حتى يمكن أن يصبح توصيله إلى الآخرين أكثر فعالية، أي أن يجعلهم يكتشفون فيه حقيقته التي لا يرونها إذا عرضت عليهم بالوسائل والطرق المألوفة. ولهذا كان يجب البحث والتقصي في وهج نظريات الفلاسفة العرب القدامى وامتزاجها بالنظريات الحديثة مثل الكوانتم على سبيل المثال؛ لكي نحصل على ما يسمى في علم النفس (بالحس المشترك).