شاع الوعي بعلاقة اللغة بالفكر، شيوعاً ربطها به في آفاقهما، وحدودهما، وعلاقتهما المتبادلة. ومن ذلك ربط اللغة بالثقافة أو المعرفة التي تنتجها المجتمعات بحسب النطاقات الجغرافية والثقافية، لكل زمان، وهذا ما أظهر رؤية ميشيل فوكو في علاقة اللغة بالمعرفة؛ وهي من المؤسسات لرؤاه المعروفة الأكثر حضوراً بين الدارسين ك"العلاقة بين السلطة والمعرفة"، التي عمّت فيما بعد، فاحتيج لمعرفة مؤسسات رؤية فوكو، مدخلاً لإعادة تقويم أداة "السلطة والمعرفة". ومن البيّن جداً أنها رؤى تأويلية وليست علميّة، فلا تؤخذ إلا من حيث زوايا نظر كل ناظر، ومؤطّراته الفكريّة، ومجموع فكره وشخصيته.. وغير ذلك. ينطلق بحث فوكو في تاريخ المعرفة والثقافة من الصلة باللغة، بحسب "الزواوي بغورة"، ففي التاريخ الثقافي يقسّم فوكو التاريخ الثقافي الغربي (يحدده بالغربي لا العالمي) إلى ثلاث حقب، تتميز كل حقبة ب "موقفها من اللغة"، وهي: 1- عصر النهضة، 2- والعصر الكلاسيكي، 3- والعصر الحديث. فمن عصر النهضة حتى نهاية القرن السادس عشر بُنيت المعرفة الثقافية الغربيّة باللغة على "التشابه"، ومن ثمّ انضوت تحته التفسيرات والتأويلات والعلاقات.. وجلّ طرق القراءة والمعرفة، فهو الذي "قاد كثيراً من تفسير النصوص وتأويلها، ونظّم لعبة الرموز، وسمح بلعبة الأشياء المرئية وغير المرئية، وقاد فنّ تمثيلها وتصويرها". ف"التشابه" هو "إبستيمية" عصر النهضة، لدوره المعرفي (تفسير النصوص وتأويلها)، ودوره في الربط (بين الكلمات والأشياء، وبين الرموز والعالم، وبين المرئي واللامرئي)، وظهر في أربعة أشكال: التوافق، والتنافس، والتعاطف، والتماثل. التشابه هو الكلي العمومي لذلك العصر، فالمفاصلة والممايزة بين الأشياء لم تكن حادّة، فلا اختلاف مثلاً بين "العلامة" و"الكلمات".. فالكل في تقاطع وتشكيل نصّ واحد، والتفسير والتأويل انفتاح وثراء؛ لوجود خاصية التشابه في النصوص، لا كما حصل لاحقاً في العبارية (عند الوضعية خصوصاً). ف "اللغة": ما زالت عاكسة لأشياء العالم، واللغة شيء من الأشياء وفي الوقت نفسه عاكسة للأشياء في العالم. وثمرة ذلك: وجود تعالق بين الجنون والأدب، فالمجنون ناطق حرّ الكلمة، واللغة تجربة ثقافية شاملة. غير أنّ ذلك آل مع بدايات القرن السابع عشر إلى الاختفاء، وظهور مفهوم جديد للغة. ففي العصر الكلاسيكي من القرن السابع عشر حتى الثامن عشر، اختفى عصر النهضة بمؤطر اللغة السابق، واختفت معه معرفته، ومظلّته الكليّة "التشابه"، ودورها، وصار التشابه مرادفاً للخطأ، وحلّ محلّه "التمثيل"، ومن ثمّ تغيّرت العلاقات في العصر الكلاسيكي، وتغيرت الأدوار، إذ كان المقروء نصّ كبير هو "نصّ العالم"، فآل لضيق وانكفاء "اللغة" على ذاتها؛ مهتمة بعناصرها الخاصّة (كالنحو العام- وجماعة بوررويال). وقراءة العصر السابق كانت "تأويلاً" أمّا هذا العصر ف"نقد"، وكانت اللغة تتميّز بعلاقتها ب "العلامة"، فآلت لعلاقتها ب "جهاز علامات" مستحدث قائم على "التمثيل"، وأدى إلى قيام نظريّة في الدلالة. فصارت "اللغة" لا تعمل إلا داخل "التمثيل"؛ الممكّن لها لتتجسّد داخل خطاب، وعليه فاللغة والفكر والتمثيل والخطاب يترادفون. واتخذت "نظرية اللغات" من الخطاب، وتحليل قيمه التمثيلية، موضوعاً لها. ومهمّة الخطاب الرئيسية: "إسناد اسم إلى الأشياء"، ومن ثمّ تسمية كينونتها، وخلال قرنين من الزمن كان الخطاب الغربي مكان ل "الأنطولوجيا". فظاهر أنّ دور الخطاب: دور فلسفة نظرية معرفة وتحليل أفكار، ويسمّي كينونة كل تمثيل عموماً، أمّا دور العلم فيُسند لكل شيء ممثّل الاسم الملائم، ويوزع على كل حقل تمثيل شبكة لغة مصوغة جيداً. وموجز إبستيمية (المعرفة) العصر الكلاسيكي هي "التمثيل"؛ ومجالها الخطاب، ومُميّز مجاله "النحو العام"، ويتكوّن من أربع نظريات: نظرية الجملة والفعل، ونظرية التمفصل أو العلاقات، ونظرية الأصل، ونظرية الحيّز البياني؛ كلها تؤكد على فكرة التمثيل. وما يميّز العصر الكلاسيكي عند عموم المؤرخين هو عصر العلم التجريبي وتعميم الرياضيات، وقوامه نظام رياضي، لكنه عند فوكو يحوي ثلاث مجالات: النحو العام، والتاريخ الطبيعي، وتحليل الثروات، وقوامه نظام العلامات. فظهر أنّ الأداة لتحليل العلاقة بين المعرفة والفكر عند فوكو هي "اللغة" في تحوّلاتها بين عصرين، وسيأتي دورها في العصر الحديث.